حالفني الحظ في حضور بضعة حفلات موسيقية رائعة أثناء زيارة سريعة إلى بودابست قبل أكثر من أسبوعين، كان بينها حفل لأعمال موتسارت في القاعة الكبرى لجامعة فرانس ليست للموسيقى في بودابست، وهي من الأكاديميات الموسيقية الأوروبية الشهيرة بتاريخها وطلابها، وببنايتها الجميلة التي انجز بناؤها في 1907 على طراز الفن الحديث.
قُدم في الحفل عملان يعدان بين أجمل أعمال موتسارت، هما كونشرتو الفلوت والهارب والاوركسترا (عزف على الفلوت الفنان المجري الكبير إشتفان ماتوز الذي احتفل ببلوغه السبعين العام الماضي 2017)، وعمل سينفونيا كونشرتانته للكمان والفيولا والاوكسترا قدمه الفنانان الشابان بارناباش كَلَمن على الكمان وكاتالين كوكاش على الفيولا (ولد الاثنان سنة 1978). وقد اخترت العمل الأخير لكلمة هذا اليوم لعدة أسباب، بينها معرفتي غير المباشرة بالفنان بارناباش كَلَمن، فقد عمل سوية مع الصديق الفنان عازف التشلو قصي حسين قدوري في تسجيل موسيقي لأعمال أبناء العم رومبرغ (برنهارت 1767 - 1841 وأندرياس 1767 - 1821) صدر سنة 2002 عن دار هنغاروتون. السبب الآخر هو أن العازفين هما زوج وزوجته، مما أعطى أداءهما طعماً خاصاً، فالانسجام بين العازفين أمر هام في تقديم أي عمل.
يعد كَلَمن بين أهم العازفين المجريين على الكمان اليوم، وقد عين استاذاً في جامعة فرانس ليست سنة 2005، بعد أربع سنوات من تخرجه منها. وهو استاذ زائر في جامعة بلومنغتون الأميركية، وهي من المراكز الموسيقية الأميركية الشهيرة. لديه 11 تسجيل موسيقي منفرد لحد الآن، وهو مؤسس رباعي وتري حاز على شهرة هو رباعي كَلَمن يعز فيه مع زوجته وعازفين آخرين. أما زوجته كاتالين كوكاش فقد تخرجت معه، عازفة على الكمان والفيولا، أصبحت استاذة للكمان في الجامعة نفسها سنة 2004. وقد حاز الاثنان على جائزة فرانس ليست المجرية، وهي أعلى جائزة حكومية تمنح للموسيقيين في هذا البلد الذي يتميز برقي التربية الموسيقية وبعازفيه وموسيقييه الكبار.
اشتهر شكل السينفونيا كونشرتانته في القرن الثامن عشر، وهو مزاوجة بين شكلي الكونشرتو والسيمفونية، رغم طغيان شكل الكونشرتو عليه. ألف موتسارت هذا العمل سنة 1779 للكمان والفيولا تصاحبهما أوركسترا الوتريات مع أداتي اوبو وأداتي هورن في سلم مي بيمول الكبير، وهو بثلاث حركات (سريع – بطيء – سريع). كان العمل تجربة مثيرة قام بها موتسارت لاستكشاف آفاق صوتية جديدة خلال رحلة الى مانهايم وباريس وقبل أن يطرده مخدومه اسقف زالتسبورغ من وظيفته ليذهب بعدها الى فيينا ويبدأ مرحلة جديدة تميزت بالنضج والكمال الموسيقي. يعدها الكثيرون أهم من كل كونشرتات الكمان التي كتبها، خاصة أنه أعطى الكمان والفيولا فيها دوراً متساوياً، والأداتان شريكتان ولا توجد منافسة بينهما.
تتميز الحركة الاولى والثالثة بالحوار بين هاتين الأداتين وبينهما والأوركسترا. أما الحركة الثانية البطيئة فتتميز بحزنها وعمقها العاطفي وهي من الأمثلة النادرة على استعمال موتسارت للسلم الصغير، وتبدو كأنها مرثية غنائية، إذ لم يمض وقت طويل على وفاة امه.