TOP

جريدة المدى > ملحق منارات > بغداد.. مقال بقلم الطيب صالح

بغداد.. مقال بقلم الطيب صالح

نشر في: 16 إبريل, 2010: 04:24 م

كتب الطيب صالح في شؤون أدبية عدة من بينها: أدب الرحلة. هنا لقطة رحلية له عن بغداد:حين قدمت على بغداد كانوا قد عينوا عبدالحسين زويلف لتوهم مديراً لجهاز تعليم الكبار ومكافحة الأمية. كنت فرحاً بتلك الرحلة، أن مكتب اليونسكو الإقليمي في عمان، الذي يرأسه الدكتور محمد إبراهيم كاظم، قد جنّدني في هذه المعركة. أن أكون أمياً بين الأميين، يا له من شرف عظيم.
 وقد اتضح لي بالفعل خلال هذه الرحلة، كم أنا جاهل. زرت سبع دول عربية، من العراق إلى المغرب، وفي كل بلد كنت أكتشف أشياء جديدة. لقد طوفت هذا العالم المتنوع الجميل عدة مرّات من قبل، وظننت أني أعرفه، ولكنني اكتشفت هذه المرة، أنني لم أعرفه حقاً لأنني لم أنظر إليه من قبل، من هذه الزاوية، زاوية الأميين. أكثر من مئة مليون أمي في العالم العربي! معنى ذلك أنك لن تستطيع أن تصنع تنمية، ولا أن تقيم حاضراً ولا مستقبلاً. لن تستطيع أن تحقق شيئاً من هذه الأحلام الجميلة التي تعنّ لهؤلاء الناس الأكابر. وإذا صدّقنا شعار منظمة اليونسكو، وهو حق (بما أن الحرب تنشأ في عقول البشر، فلا بد من إقامة حصون السلام في عقول البشر) فمعنى ذلك أنك لن تستطيع إقامة أي من هذه الحصون، إلا إذا فتحت كل هذه العيون المغمضة.كانت بغداد جميلة كعهدها، بل كانت أجمل. كان سوق (المربد) عامراً وتبارى الخطباء والشعراء وألقى محمد الفيتوري قصيدته العصماء (لم يتركوا لك ما تقول). تنفس الناس الصعداء، ودفنوا موتاهم وجففوا دموعهم. الحزن دائماً قريب من السطح في طبع العراقيين الأريحي، ولكنهم تناسوه وأخذوا ينظرون إلى المستقبل بثقة من قاوم وصمد، ودفع الثمن. ينظر حوله ويرى ماذا تهدم وماذا ظل واقفاً. ماذا ضاع وماذا بقي. وكان من بين ما تهدم جهاز مكافحة الأميّة.توقفت الحملة خلال سنوات الحرب، وبدأت الأميّة تزحف من جديد، حتى وصلت الآن إلى 15% من عدد السكان حسب تقديراتنا. إلا أن عبدالحسين زويلف كان واثقاً أنهم يستطيعون القضاء عليها بسهولة، وقد صدقته، فقد كانت وراءهم تجربة عظيمة، والحملة التي قاموا بها، أصبحت مضرب المثل في المجتمع الدولي.استقبلني بابتسامته الودود ووجهه الطيب، ورافقني طوال إقامتي، وكان سعيداً متفائلاً. لا غرو فقد خاض المعركة من قبل، مساعداً لطه يس إسماعيل، الذي كان رئيساً للجهاز التنفيذي. استمرت الحملة سبع سنوات منذ عام 78. لاحقوا الأميين في كل مكان، في الأهواز حيث يعيش الناس في جزر في الماء في مضارب البدو. في قرى السواد بين النهرين. قضوا على الأمية قضاء تاماً. وكما تتحول أحداث الحروب إلى أساطير، تحولت تفاصيل حملة مكافحة الأميّة، إلى أسطورة مثيرة في خيال عبدالحسين زويلف. قصدت الكويت بعد بغداد، وهنالك لقيت عبدالعزيز النجدي، مدير جهاز تعليم الكبار ومكافحة الأمية في وزارة التربية. رجل آخر من هؤلاء الرجال الصالحين. مثل أخيه في بغداد تماماً. كأنه هو. وقد اكتشفت خلال تلك الرحلة أن كل الرجال والنساء العاملين في ميدان مكافحة الأمية في العالم العربي، هم من طينة واحدة. الطيبة ودماثة الخلق وحب الخير والإيمان العميق بقيمة الإنسان.بعض المهن والحرف تفعل هذا الأثر في أصحابها. الأطباء، على وجوههم شيء ما، كأنهم يعرفون سراً لا يعرفه بقية الناس، ربما لكثرة ما رأوا من تقلبات الحياة والموت. وهؤلاء يرون معجزات تحدث أمام أعينهم يوماً بعد يوم، هذه الكتل البشرية البكماء، مثل الحجارة قبل أن تصنع منها التماثيل، فجأة تنطق وترى. الرجل في السبعين، والمرأة في الستين، بعد أمد من الظلام، تنحلّ لهم الرموز، وتنفكّ ألغاز الحروف. ك.. ت.. ب.. /كتب/ ع.. ر.. ف.. /عرف/.نظرت مع عبدالعزيز النجدي في فصول محو الأمية إلى وجوه الأميين، رجالاً ونساء، فجأة تشعّ بالحياة حين يقرأون ويكتبون، ترى على وجوههم فرحاً مشوباً بالدهشة، كمن يخرج دفعة واحدة من الظلام إلى النور. ما الذي جاء بهذا الرجل الطاعن في السن؟ وهذه المرأة ماذا يجديها أن تتعلم الآن؟ إنها تلك الرغبة المتأصلة في الإنسان أن يعرف ويدرك ويتواصل بطريقة أفضل مع الآخرين، إلا أن معظم الناس الذين يقبلون على فصول محو الأمية تحدوهم أيضاً رغبات مُلحّة لتحسين أوضاعهم المعيشية.وجدت في الكويت جهازاً ضخماً لمكافحة الأمية، وهو أحسن جهاز رأيته في البلاد التي زرتها. كان معدّاً إعداداً عالياً، وفيه كفاءات ممتازة في ميادين البحوث التربوية والبحوث المتعلقة بمكافحة الأمية، من الكويتيين وغيرهم.تركت الكويت قاصداً صنعاء، وقد حرمني ضيق الوقت أن أعرّج على دار كريمة وأسلّم على ساكنها الكريم، الأستاذ عبدالعزيز حسين. كان رئيسنا طوال أربع سنوات في لجنة التخطيط الشامل للثقافة العربية التي كونتها المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، بدعم مالي من دولة الكويت. اجتمعنا في الكويت وفي تونس وفي صنعاء. وكنا نزداد مع مرور الأيام تقديراً وحباً لرئيسنا الفاضل. كانت زمرة طيبة من بلاد عربية شتى وحين انصرفت الأعوام وفرغنا من عملنا، شعرنا بحزن عظيم، فقد طابت لنا الصحبة، وطاب لنا العمل برئاسة ذلك الإنسان الفذ. ومهما يكن فإن تقرير اللجنة، وهو من عدة مجلدات، وقد ترجم إلى الإنكليزية والفرنسية، سوف يظل أثراً جليلاً في ميدان العمل الثقافي العربي، ومأثرة لا تنسى لدولة الكويت.غذّت بي الطائرة نحو صنعاء. هنالك سوف ألق

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

برتولت بريخت والمسرح العراقي

برتولت بريخت والمسرح العراقي

د. عادل حبه في الاسابيع الاخيرة وحتى 21 من أيار الجاري ولاول مرة منذ عام 1947 ، تعرض على مسرح السينما في واشنطن مسرحية "المتحدثون الصامتون"، وهي احدى مسرحيات الشاعر والكاتب المسرحي الالماني برتولت...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram