نجم عبد الله كاظم اهتم الأدباء بلقاء الشرق والغرب مستجيبين له بتمثّل أشكاله ومناقشين لقضاياه أحيانا ً، ومجسدين لرؤاهم له غالباً . وكان ذلك طبيعياً في ظل انفتاح العرب على الآخرين وتحديداً الغربيين ، وبشكل أكثـر تحديداً الأوربيين قبل أن يشمل الأمريكان في وقت لاحق ، وانفتاح الآخرين على العرب .
وكان طبيعياً أيضاً أن يطرح ذلك بالضرورة الاختلافات الكثيرة ما بين الاثنين ، الأمر الذي يثير في النتيجة الخلاف والرفض في جانب ، والقبول ، غالباً المتحفظ ، في جانب آخر ، كما يثير التساؤلات والجدل الصريح والضمني ، وربما التصادم في غير قليل من المناسبات والظروف . في ظل هذا كان من الطبيعي أن لا تتأخر هذه الاستجابة أو التمثل من الأدباء العرب عن فعل اللقاء نفسه بينهم وبين الغرب وما أثاره خاصة في ظل الاختلافات الكثيرة التي تفرض تناولها إبداعاً ، وتبعاً لذلك نقداً إلاّ بحدود تأخر ظهور النوع الأدبي نفسه الذي يعنينا عند العرب . فنحن نعرف أن العرب لم يمتلكوا في أدبهم الحديث رواية فنية إلاّ بعد عدة عقود من تحقق ذلك اللقاء الحضاري الحديث ، بأشكاله المختلفة ، بين الشرق أو العرب تحديدا والغرب . يضاف الى ذلك أن الإبداع إذ لا يهتم بالوقائع بقدر اهتمامه بالعواطف والانفعالات ولنقل الجانب الوجداني للإنسان ، فإن الرواية إنما تُعني بالتجربة الوجدانية والانفعالية بعد نضجها واستقرارها وربما انتهائها النسبيين ، وعليه يكون تأخر تمثلها لهذه التجربة طبيعياً . عدا ذلك يمكن القول إن العرب قد اهتموا من خلال مفكرّيهم ومثقفيهم باللقاء بين الشرق والغرب مبكراً ، فقد "انشغل مفكرو عصر النهضة العربية بقضية العلاقة بين الشرق والغرب ، وسجلوا تجاربهم لدي ارتطامهم بالحضارة الأوروبية ، وحددوا مواقفهم ورؤاهم بالنسبة لهذه العلاقة وآثارها ونتائجها" . وكُتب في ذلك الكثير نسبياً مما لسنا معنيين هنا إلاّ بما كان له علاقة منه بالميدان أو الفن موضع اهتمامنا ، نعني الرواية . وحتي هنا ، إذا ما أردنا أن نكون مرنين في التعامل مع تلك الكتابات التي اشتملت على بعض ملامح الرواية أو مهدت لظهورها ، ومنها أوائل الأعمال التي انشغلت باللقاء بين الشرق والغرب ، فإن هذا الانشغال والتمثل كان مبكراً نسبياً ، بل هو واكب هذا اللقاء الى حد كبير . وهكذا إذا كان الأدباء في العصر الحديث قد تَمثّلوا اللقاء بين الشرق ممثَّلاً غالباً بالعرب ، والغرب ممثلاً بشكل خاص بأوروبا والى حد ما أمريكا ، فإن الروائيين كانوا أكثر هؤلاء الأدباء فعلاً لذلك برغم حداثة الفن الروائي بشكل خاص والقصصي بشكل عام في الأدب العربي مقارنة بالشعر مثلاً . ويبدو أن مرد تميّز الروائيين عن غيرهم في هذا التمثّل هو طبيعة الجنس الروائي نفسه المتعامل مع الحياة والواقع والناس والتجربة أكثر من أي جنس آخر . وهذا الأمر يجعلنا نختلف مع قول أحد الباحثين : "انتبهت الرواية العربية لقضية الشرق والغرب في النصف الأول من هذا القرن بتأثير البعثات الدراسية للطلبة العرب الى أوروبا من جهة والزيارات التي قام بها أدباء عرب الى أوروبا من جهة أخرى" ، إذا ما فهمنا قول هذا الباحث على أنه يعد هذا الاهتمام هو البداية ، أو أن الرواية المقصودة إنما هي الرواية الفنية . فإجمالاً "الكتابة الروائية عكست صدمة اكتشاف الآخر الأوروبي منذ وقت مبكر ، ولكن الغريب أن هذه الصدمة لم تتوقف منذ زمن الاكتشاف الأول الى زمن العولمة الحالي" . يبقي من الصحيح أن نقول إن الاهتمام أو التمثل قد مر بمراحل ، وفقاً لمراحل الاتصال أو اللقاء نفسه وطبيعة كل مرحلة منها من جهة ، ولمراحل تطور الرواية العربية نفسها من جهة أخري وكما سنحاول عرضه باختصار في ما سيأتي :المرحلة الأولى ، هي المرحلة الممتدة من منتصف القرن التاسع عشر تقريباً الى الحرب العالمية الأولي ، وكانت كتاباتها عبارة عن وصف للغرب أو لبعض جوانبه مع الانتباه الى ظواهر الأمور وإعطاء بعض من هذه الظواهر اهتمامات خاصة ، وكل ذلك جاء مع غلبة للتعميم ونقص الوضوح الكافي عادة ، وحتى في حالة بيان الرأي أو الآراء فإنها تكون في "شكل الانطباعات الشخصية" . وكان طبيعياً أن تتصف هذه المرحلة أو بالأحرى أعمالها المحدودة بذلك ، "ففي مرحلة الاكتشاف المفاجئ والصادم التي تتحدد تاريخياً بالنصف الأول من القرن الماضي (التاسع عشر) كانت صورة الآخر الغربي غامضة ومشوشة في عمومها ، ذلك لأن من تصدى لبنائها وبلورتها كان يفتقد اللغة المناسبة للتواصل مع هذا الآخر العجيب الغريب الذي يختلف عن صورة أسلافه ، وعن صورة الذات كل الاختلاف ، وخصوصاً إذ يباشر "حيلاً" ينتج عنها (أمور لا تتسع لها عقول أمثالنا) كما كان يقول الجبرتي . كانت الأطروحة الرئيسية في هذه المرحلة نتاج ذلك الوعي البسيط "السعيد" كما يقول ألبيرت حوراني ، حيث كان الآخر "بعيداً عنا غاية الابتعاد" وبالتالي يمكننا التعامل معه بحرية وراحة لنأخذ ما نحتاجه من "علوم البرانية" وتقنياته غكذاف الضرورية لنهضتنا ونترك ما لا يتلاءم مع معتقداتنا وقيمنا وعاداتنا . هذا ما كان يلح عليه الطهطاوي وعلى مبارك وهما
الحداثة والاستشراق..رؤية العربي للغرب في الرواية العربية
نشر في: 16 إبريل, 2010: 04:25 م