حاتم الصكَرفي استذكار الطيب صالح لمناسبة ــ مفاجأة؟ ــ غيابه تحضر بقوة أعماله التي خلدته وحفظته في الذاكرة السردية المعاصرة، رغم ابتعاده المبكر وصمته وقلة إنتاجه، وانصرافه مؤخرا الى تدوين ذكرياته عن المدن والأمكنة التي عاش فيها وأحداثها التي قُدّر له أن يعيشها، وكأنه يدون وصيته الثقافية والفكرية لكونه شاهدا ذا أهمية فقد عاش في الغرب
وتوجب عليه معاينة المعادلة القائمة بين الوجود هناك والعيش هنا بالعقل والضمير وهو ما جسّده في روايته (موسم الهجرة الى الشمال) التي احتلت مكانة بارزة في المدونة السردية العربية الحديثة..كعمل فني فكري مُحْكم.لم يكن كثير من طلابي قد قرؤوا شيئا للطيب صالح عندما قررت لهم روايته (عرس الزين) للدراسة والتحليل في مادة النثر الحديث، لكنهم بعد أيام كانوا يتحدثون عن الزين كشخصية مألوفة وحميمة بدءا من اسمه المميز، وقد لفت انتباههم انتشال الطيب صالح للزين من الهامش الاجتماعي الى المركز وزواجه بنعمة التي ترفض وجهاء القرية، وتساءل بعضهم عن إمكان وجود حدث مماثل في الواقع يتحول فيه الفتى الأبله الظريف والدميم بطلا تتزوج به أفضل فتيات قريته.تنتهي الرواية والزين وسط الراقصين، (واقف في مكانه في قلب الدائرة، بقامته الطويلة وجسمه النحيل فكأنه ساري المركب). راح الزين يقود الحشد منتصرا على الجماعة التي عدّته مجنونا وعاملته بقسوة فثأر منها وقام بالتعويض عما أحسّه غبنا وتهميشا.. فكانت النهاية برمزيتها تشير الى الانحياز لمخلوقات الهوامش المقصاة والحواشي المهملة، وكان السودان نفسه بلد الطيب صالح يقف في قلب دائرة الرواية العربية ويظهر بإبداعه الى العالم من بعد عبر أعماله.عندما رحل الطيب صالح في الأربعاء الرمادي الحزين تذكرت بكاء الزين ليلة عرسه عند قبر الشيخ الحنين، كان والدا رمزيا له وبصوفيته ورقة مشاعره قدّم البديل للأب الغائب في الرواية و قام بتعويض آخر، هو عصب روايات الطيب صالح في الحقيقة. وإذا كان الدارسون يعرّفون الرواية بأنها فن التحولات فإن الطيب صالح يجعلها فن التعويض عن الحرمان والفقد، كما هو حال السرد العربي في أجمل متونه كألف ليلة وليلة، وعلى أساس ذلك التعويض يتحول الأشخاص وتتحول مسارات السرد وأحداثه.هكذا نلتقي مصطفى سعيد في (موسم الهجرة الى الشمال) فلاحا مقترنا بامرأة من غمار الناس بعد أن قتل زوجته البريطانية وعاد من رحلته الشمالية خائبا، كأنما ليترجم مقولة إن الشرق شرق والغرب غرب فلا يلتقيان ولا يأملان اللقاء لأنه مستحيل فالشرق الكتلة والشرق الجهة ينأي عن الغرب كتلةً وجهة ، لذا كان سفر مصطفي سعيد بطل موسم الهجرة الى الشمال ودراسته وزواجه ومحاولة العيش في الغرب ضربا من المستحيل الذي أعاده الى النسيان في زاوية قصية من وطنه، ولكن ليلامس قضية من أخطر ما كان ــ ولا يزال ــ على لائحة الثقافة والآخر.لقد عالج الطيب صالح بسرد روائي سلس بسيط وموجز أشد القضايا تعقيدا، وعانى ما عاناه أبطاله وبلده وثقافته العربية من أسئلة حارقة وعنت وتهميش، لكن احتفاء الرواية العربية به واغتناءها بجهده كان مكافأة للإبداع غير المصنوع بشهرة أو شائعة..وظل الطيب صالح علامة مضيئة في فضاء السرد الروائي العربي باقتصاده وتكثيفه وبلاغته وإيقاع رواياته المميز وبذلك التمثيل الفني العالي لواقع المهمّشين والمنبوذين والأماكن المقصاة والأزمنة المنسية وذلك الاحتكاك الواعي بأعنف الإشكالات المعرفية والوجودية وقضايا الإنسان المعاصر التي ليس لقاء الشرق والغرب الذي مثلته روايته الأشهر(موسم الهجرة الى الشمال إلا واحدة منها..تقرض المنافي بموت الطيب صالح قلما آخر وتُسكت نبض قلب مرهف لكن ميراثه سيحكي لأجيال القراء لمدى لا يحده زمن أو يوقفه غياب.. فالطيب صالح ليس عابرا أو مارا بالمصادفة في مساحة الرواية والثقافة العربية وهاهم شخوص أعماله يلتمّون اليوم حول جسده الراحل وفكره وحكيه الباقي عبرهم وعبر قرائه ودارسيه.
في رحيل الزين
نشر في: 16 إبريل, 2010: 04:29 م