يكتنز الوطن جواهر بشرية فريدة كلما أوفَت له طوال أزمانه، اقتربت أكثر من شمس اعتزازه بها، لتلمع بشدّة وسط ظُلمات عقوق آخرين كلّما شبعوا من الوطن زاد ابتعادهم عنه، وأصبحَ ارتباطهم الصميمي به مستحيلاً!
لا ننسى يوم فركنا العيون لحظة استفاقة عُمر الشباب، تطلّعنا لقامة بهيّة ملأت دنيا الرياضة العراقية وكرتها الصاخبة على وقع هتافات مُشجّعين يُعصّبهم حُب النجوم، يومذاك ولج الجناح الطائر هشام عطا عجاج العمل الإداري لنادي القوة الجوية، أحد أشهر أندية الرياضة في العراق، مؤسسة ونجوماً وصيتاً ذائعاً، بعد أن فرش له تأريخ الكرة العراقية سجّادة بيضاء مشى عليها مَلِكاً بأخلاقه وفنّه وولائِه وتفانيه لناديه ومنتخبه وعَلَمِه.
"النفاثة عجاج" اللقب المحبّب إليه، لم يُعمِّر في الملاعب أكثر من الفترة التي مثّل خلالها نادي القوة الجوية من عام 1960 إلى عام 1971 وذلك لتعرّضه إلى إصابة أوقفت مسيرته مع الكرة، لكّنه ظلَّ شغوفاً للعبة مثلما نقل لي كثيرون من أبناء جيله، مُعبّراً غير مرّة عن رغبته في خدمة زملائه عبر الموقع الإداري، وهو ما تحقّق له بعد سنوات عدّة.
خَبَروه الناس خلال ترؤسه نادي القوة الجوية للفترة (1987-2003) التي تخللتها ابتعادات مؤقتة لثلاث مرات لم تمنعه من التواصل الروحي والفعلي مع الصقور، خَبَروه شخصية فذّة في التعامل الراقي مع الرياضيين، ما انعكس ذلك على واقع الأندية في العراق التي كانت تضرب المثل الأعلى بنزاهته ومسؤوليته وثقافته وإدراكه العالي بأنَّ الرياضي الذي يُعزَف له السلامُ الجمهوري أثناء تفوّقه ينبغي أنْ يسمو بتصرّفاته مع مستوى تلك الرِفعة التي لا تُضاهيها سوى هيبة مَن يُرفع لأجله علمُ الوطن احتراماً لمنصبه وموقعه وتأثيره في المجتمع.
وعلى خُطى نهجه الوطني في عدم التخلّي عن بلده حتّى الرمق الأخير، واجَه ضغوطاً نفسيةً ما بعد عام 2003 من انتهازيين وطأوا باحة نادي القوة الجوية وحشّدوا أنصارهم لدعم مسعاهم بتولي رئاسته، على حساب شخصيات قديرة أمثال عجاج، الذي وجد نفسه مُحارَباً بصلافة من أشخاص تغيّروا 180 درجة أمامه، وقالوها بلا خجل (أرحل .. لم تعد قلعة الصقور إرثاً للآباء.. بل مَطمَعاً لتملّك الأبناء) وبالفعل حَزم الرجلُ حقيبته، وأعلن رحيله منذ خمسة عشر عاماً عن البلد، مُقيماً في دولة قطر الشقيقة التي احتضنته كفاءة عراقية كبيرة، مانحاً لها خبرة ومشورة تجارب السنين الطويلة أثناء عمله مع أندية الدوحة مع رفيق دربه في الوفاء شيخ المعلّقين الرياضيين مؤيد البدري.
هشام عطا عجاج.. تجاوز منتصف العقد السابع، ويمثل مع ثلّة تتنفس من رئة الصبر، آخر عنقود جيل الروّاد النجباء، ودّع عام 2017 بمزحة ثقيلة من وزارة الرياضة تطالبه بأنْ يتقدّم بشاهدٍ يُصادق على تأريخه الرياضي وهو أفنى حياته لأجل إعلاء علم العراق طيّاراً شجاعاً بارّاً لشرف الانتماء، ولاعباً ثائراً لكرة الرافدين مُذ صنع نجومها المَهَرة المنجزات الستينية والسبعينية إكراماً لسعادة البُسطاء وهم يزيحون فوق المدرّجات كُرب الحياة عن قلوبهم بضحكات الفوز الهادرة.
خمسة عشر عاماً، يُداري غُربَة قلبه عن روحٍ تركها بين أزقة بغداد، يوهم نفسه أنَّ مقلتيه عصيّتان على الدمع، ويُكابر عنوةً لأجل أنْ لا يهزمهُ الحنين، ويجرّهُ من تلابيب شوقه مشّاءً من سوق (واقف) إلى (كسرة) جمولي، وأعظمية صباه، ونسائم عصاري أبو نؤاس، وصياح بائع السوس في شارع الرشيد، و(هوسات) جمهور الشعب (خارج اليمنة هشام .. ضابط الهجمة تمام) ثم ما يلبُث أنْ يَستدركَ نفسه، شاكراً نعمة الله عليه، فدوحة الخير حانية كبغداد الأم الزكيّة القابضةَ على جمر الذكريات!
الثائر لسعادة البسطاء
[post-views]
نشر في: 9 يناير, 2018: 03:38 م