الأربعاء، 16 إبريل 2025

℃ 28
الرئيسية > أعمدة واراء > أغنية وفاء للندن

أغنية وفاء للندن

نشر في: 7 يناير, 2018: 09:01 م

(2 - 2)
1.
أيتها المدينة المُثقلةُ بالحكمة. اقترحتِ على العين ألواناً لم تكن في حسابها. وفّرتِ لي الألوانَ والكانفس وقلتِ: استسلمْ لذاكرتك الآن، فرسمتُ استراحةَ الآلام في خمارة "كاردينيا". عرفتُ منكِ أن الموسيقى والرسم ملهمان في كتابة القصيدة، عميقان بفعل اللامباشرة، يليهما النصُّ والخبرة. لأن الزمانَ في الموسيقى، والفضاءَ في الرسم بعدان كونيان، يمنحان للقصيدة مدى ماورائياً، هو وحده الذي يميّزها عن النثر. حبّبتِ لي الباصَ والأندركراوند، لأن الأجناسَ البشريةَ تتزاحم فيه. أتأملُها جنساً جنساً، وكأني أتأمل الأجناسَ الخليط في داخلي. أتأملُها وجهاً وجهاً حين تغفو الوجوه قبل العمل وبعده، صوتاً صوتاً حين ترطُنُ الأصواتُ في الموبايل.
أنتِ تعتبرين الاصغاءَ لصوت وطنيتِكِ لغواً وعيباً. ولأن وطنيتي التي جئتُ بها داخلَ جواز السفر لا تمسّ إنسانيتي، هجرتُها مع جواز السفر، وتقبّلتُ هويةَ المواطن الذي لا وطن له. أودعتُ ألأوجهَ، والأمكنةَ، والأزمنةَ العزيزةَ عليّ في خزين ذاكرتي، ووضعتُ المفتاحَ في زجاجة، ألقيتُها في البحر. السنواتُ المتبقيةُ من العمر لم تعترضْ، ولم يعترضْ الأسى الذي لم يعدْ يعتصرُ القلب.
كمْ تستحقين أغنيةَ وفائي هذه وقد سمحتِ لأمواج "التَيْمس" تهدهد زورقي الخشبي القديم، ينطلقُ من شريعة "العباسية"، باتجاه "كاردينيا" في شارعِ أبي نؤاس. أراه يُحاذي الجرفَ الاسمنتي لشريعة "الساوث بنك"، وعلى أضلاعه الخشبية المطحلبة ينعكس ظلُّ الأسماك.
منحتِني حقَّ أن أَنعمَ بمسرّاتِ بلادٍ كانت لي ذات يوم، ثم أُحرقت على يد جُناةٍ من أبنائها دون رحمة. وما زالتْ تُحرق مع كل صلاة. كم تستحقين أغنيتي لأنكِ تُهوّنين عليَّ استعادةَ الذكرى، تُلقين عنانَ فرسها في راحة يدي، وتبعثين بي جرأةَ أن أقفزَ باتجاه السحب. حتى أنكِ سمحتِ لحمقى التطلعات الدموية إلى السلطة (الوطنية، القومية، الأممية والدينية..) باللجوء إليكِ؛ ينفّسون في أبهائكِ المضاءةِ عن احتقانهم.
2.
كنتُ في وطني أتقزّمُ بين تطاولِ القامات، وحين جئتُكِ استعدتُ قامتي.
لقد تعلمتُ أن أقولَ شكراً للقارئ المتفضّل، شكراً للطائر الضيف، شكراً لمدفأة البيت.
تعلمتُ الحوارَ لا الخطابة. تعلمتُ أن أقول "لم أفهمْ"، حين لا أفهم، ولمْ أشعرْ بحرجٍ من ذلك، ولا بعيب.
تعلمتُ حبَّ "أنا" النرجس لدى أبي نؤاس، والارتيابَ من "الأنا" المتورمة لدى أبي الطيب. تعلمتُ أن أتطلّعَ عالياً حين يتردد اسمُ "أبي العلاء". في "هجاء"المتنبي أرى الضغينة، وفي "سخرية" ابن الرومي وابن الحجاج أرى الرغبة في الدعابة والضحك.
أقول للقارئ الانكليزي تشمّمْ رائحةَ بغداد في عربيةِ قصيدتي وموسيقاها، لا في معناها فقط، ثم أقرؤها له فيطرب.
أقول للشاعر الانكليزي: إنني أتعلم منك، لا أُقلدك ولا أُحاكيك.
"حين رجعتُ زائراً لبغداد وجدتُ زمني فيها قد غادر إلى غير رجعةٍ. في ذاكرتي ترك بضعةَ مفاتيح تُعينني على الكتابة." قلتُ هذا للمدينةِ المُثقلة بالحكمة.
قالت: "انتسبْ لزمني إذن، فهو يليقُ بتطلعاتك."
قلت: "زمنُك متسارعٌ. كمْ حاولتُه، وأبى إلا أن يظلَّ عصياً."
قالتْ: "أفهم ذلك. لم يبقَ لكَ إلا زمنُك الداخليّ تنتسبُ إليه. ستكونَ حراً فيه، فهو شأنَ الزمن في قصيدتك، لا يُحسبُ حساب الدقائق والساعات والأيام." ثم أضافتْ: "إن دخلَكَ على قدرِ حاجتكَ، لا تغفل عن ذلك، وهذا عينُ الغِنى."
مطرُكِ أيتها المدينةُ لا ينقطع عبر الفصول. في الصيف أخرجُ إلى الحديقة عارياً، وأجلسُ تحت المطر.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض اربيل للكتاب

الأكثر قراءة

سيكولوجية تجنيد العقول في الجماعات الارهابية الدينية

قناطر: العالم يتوحش .. المخالبُ في لحمنا

العمود الثامن: قوات سحل الشعب

"الحشد الشعبي"... شرعنة التشكيل بوظائف جديدة

كلاكيت: "ندم" وعودة الفيلم الجماهيري

العمود الثامن: قائمة المنتفعين

 علي حسين في بلاد الرافدين حزب من المنتفعين يضم عدداً من السياسيين والمسؤولين الكبار ممن إذا أصابت الناس مصيبة لاذوا بالصمت الذي هو في عرفهم أبغض الحلال. ومن المفارقات العجيبة في العراق -بلد...
علي حسين

باليت المدى: كرسي مكسور الساق

 ستار كاووش عندَ لقائي ببعض الناس أفاجئ ببعض التفاصيل الصغيرة التي تُشير الى نوع من الكسل واللامبالاة وعدم إيجاد الحلول حتى وأن كانت صغيرة. فرغم إنغماس أحدهم بتعديلِ صُوَرِهِ ببرامج الفوتو شوب كي...
ستار كاووش

(50 ) عاماً على الحرب الأهلية اللبنانية حياة بين فذيفتين

زهير الجزائري (1) يوم ١٣ نيسان ١٩٧٥ بدأت الحرب من مجزرةً (عين الرمانة). كنّا في طريقنا إلى الجنوب اللبناني حين انقطع بثّ الراديو بين إعلان عن مسحوق الغسيل المفضل لدى النساء العصريات و سيكارة...
زهير الجزائري

التنافس الاستراتيجي بين الولايات المتحدة والصين: تحديات القرن الواحد والعشرين

محمد علي الحيدري التنافس بين الولايات المتحدة والصين أصبح في السنوات الأخيرة أحد أبرز القضايا التي تحدد ملامح السياسة العالمية، حيث يشتد في المجالات الاقتصادية والعسكرية والتكنولوجية بشكل يثير الكثير من التساؤلات حول مستقبل...
محمد علي الحيدري
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram