لا أجد التركيز على البنية الفلسفية وبالتحديد الصوفية سوى في كتابه ( الأوثان )الشعري المبني، والرؤيوي ، التصوف للفنان ( عادل كامل ذي الدوافع العميقة لرؤى التشكيل ، عبر ممارسة رسم اللوحة ونقدها. والوثن هنا يبدو استخداما ً مجازيا ً لتأكيد بنية الأفكار والشواهد ذات الفيض الفكري.
فهو لم يكن ضمن سياق الفصول الحاوية على التأملات الذاتية جامدا ً ، بقدر ما هو حاوٍ لبنية تحرّك . بمعنى ؛ الوثن هنا هو اشتقاق من طبيعة المدوّنة الأولى التي اتخذت من الطين والماء تشكيلاتها الأولى . ولما كان هذا التشكيل مرافقاً وموافقاً لنظريات التشكيل في الحراك الميثولوجي بصورة عامة ، وبالأسطورة بشكل خاص ، نرى أن تأثير نظرية الخلق البابلي ( أنوماليش ) أكثر تأثيرا ً في ذلك . فالصياغة أتت على النتائج من اتحاد الآبسو وتيمات لتشكيل وحدة خلق وما رافقها من تشكيلات أخرى شكّلت صيرورة الوجود . لذا أرى أن الوثن هنا اشتقاق طيني مائي مطلق ، يرتبط بكل حيوات الفكر ولا يختصر على نمط دون آخر . ومن هذا أيضا ً أجد إن الرؤى الصوفية لـ ( عادل كامل ) هنا متأتية من طبيعة هذا التشكّل الذي يراه على أوسع الرؤى كما ذكر ( النفّري ) لذا انبسطت العبارة بانثيالاتها كما لو أنها نهر كانت مياهه محتبسة لزمن طويل . فلا النهر و تجميعه لكتل المياه ، ولا عادل توقف عن تجميع ما باستطاعته التجميع وهو بصدد ممارسة الإنتاج في حقول الإبداع الكثيرة ، بل هي الحقيقة الصوفية المطلقة.
من هذا أرى أن ( أوثانه ) مجسّات لخلق العبارة التي تمتلك فيوضاً خالقا ً للمعنى العرفاني . فهو بذلك يتوسط المحراب في نقطة مركزية ، هي حصيلة لتجربة طويلة وكبيرة . ولأنه عرف الطريق فسلكه ، فمن حقه كما يرى أن يكون داعية لحقيقة ما رأى واكتشف عبر رؤاه . بمعنى حقق عبارة ( النفّري ) معكوسة فقال : ( أنا أم الوثن أنار للآخر مسالك هذا الابتداء ؟ ) ولعله بهذه لعبارة قد مزج بين مستويين من قوة الرؤى وتأثيرها . فسؤاله ــ أنا أم الوثن ــ دال على الامتزاج ، أي لا انفصال بين الاثنين فهو الأنا وهو الوثن . ولا فرق هنا في هذا الفيض أن يكون من أي طرف يصدر . المهم إن الذات متعلقة بالقوة المعنوية الصوفية ، والمهم أكثر الفيض من النور لا المسبب . وهذا هو المتحقق الصوفي . وهو القريب من قول ( أبي منصور الحلاج في ( إني أرى الله ، أو الله في جبتي ) وهو قصد لم يدركه ذوي السلطة ، بل ذهب أدراج الرياح كما اعتقدوا غافلين عن صفاء الرؤى والرؤيا التي بقت محلّقة في طيات التاريخ ، سواء كانت هذه الرؤى صوفية أو مادية وضعية . فالهدف العام هو ما يُحدد شرعيتها في الوجود.
نجده يؤكد أيضا ً بعبارة أكثر تركيزا ً على مثل هذه الرؤى ، لكنها توضح الطبيعة أو الكينونة بقوله : (فوق الموجة الأسماء تتلاشى .. أحيانا ً .. تتكون ) ولنتأمل في هذه العبارة القصيرة والمركّزة في آن واحد . فتلاشي الأسماء تعني نكران الذات ، وهي صفة الصوفي الذي يُمحي الذات ويُبقي الأثر للآخرين ، فتتلاشى تعني تختفي أو تضمر ، ولكن ليس على حساب المعنى . للمعنى البقاء وللإنسان الفناء . وتلك سيرة وسر الوجود . أما ــ أحيانا ً تتكوّن ــ ففيها الجدلية متمكنة من قدرتها وتواليها في تأكيد الحقيقة . فالفناء الذي أشرنا إليه لا يعني فناء الكل ، فهو باق ، إذ يتجدد في هذا الجزء أو ذاك ، فالوجود لم يتوقف في فناء ( الحلاج ) بل واصل حراكه وتناميه في وجود غيرة ممن لهم رؤى متجددة . وأرى أن في هذا أيضا ً تأكيد من ( عادل ) على مواصلة العطاء في الوجود . لقد انفتحت المجالات كثيراً في تداعيات المتأمِل ( عادل كامل ) في سعة الوجود . لكنه وضمن وجوده المقتصر يُدرك إن لا اتساع في الرؤى بدون العمل على تركيز التأمل والزيادة فيه . بمعنى لابد من امتلاك الزمن في عزلة الكرستال التي تفتح الأبواب ولعل عبارة : ( يأتون من البعيد .. يا للكهف .. ثم باستدراك الهواء يرجعون : يا من لم تولد .. إن عويل قبرك أقل فرحا ً من رحيلي ) ولعل هذا ينطوي على مساءلة واسعة ومكينة في مجال الصيرورة التي لا تتوقف في ــ يأتون ــ ومن البعيد أي من التاريخ وــ يا للكهف ــ أراها مرتبطة بالواقع ، أي بالمُحدد والمحدود لأنها أساسا ً تنفتح باستكمال العبارة في ــ يرجعون ــ والدليل الآخر ما تنطوي عليه بقية العبارة من جدلية الفناء والانبعاث في ــ عويل قبرك ــ وــ فرحا ً ــ و ــ رحيلي ــ . هذه المفردات المركّزة هي ما أشار إليها ( النفّري ) والمراوحة بين سعة الرؤيا والعبارة . و( عادل ) يحاول اتخاذ ناصية الرؤى الصوفية ليحدد كيف تتسع العبارة ، وكيف تتركز في آن واحد . لأنه أساسا معنيّ بالحكمة من كل هذا الحراك الذهني التأملي ، لاسيّما في عبارته اللاحقة ( ليس للحكمة باب . يا أيتها النفس اخرجي ، فالمدينة خالية من حرس الليل . لا ملائكة ، لا ياقوت في المدى . جبل يلملم لصوص القلب . فالعاشق استوي على عرش حصاة ، وأنا عند السماء . كفت روحي الشكوى ، يا أيتها النفس اخرجي فالآتون ظرفاء ، لا أمير خير من أمير ، فالظلام حشرنا / جميعا ً / فرّقنا في حبة رمل).
مشهد وداع لعادل كامل
صادق الصائغ
وَجْهٌ شَاحِبْ
كحُطَام سَفيْنَة
يَسْتَلِم للِمصبَاحِ وَلِلمِشْرَط
وَينوءْ كموْجة
لا تَسْتَطِيع الإفْلاتْ