يعتقد بعض النقاد أن كوينتين تارانتينو هو أكثـر المخرجين الأمريكان موهبة وتمردا وخصوصية في مرحلة التسعينيات من القرن الماضي، ورغم أنه لم يدرس في معهد السينما ولم يأخذ الفن على أصوله الأكاديمية وإنما تعلمه من خلال مشاهدة الأفلام، فان أسلوبه الفني هو خلطة مثيرة من (ثقافة البوب) والأفلام الطليعية وأفلام العصابات .
من سمات عمل تارانتينو أنه لا يعتمد على ممثلين نجوم وإنما يعتمد على أحداث الفيلم وطريقة إخراجه، لكنه في فيلمه هذا (جاكي براون) كسر القاعدة وقدم الممثلة (بام جرير) التي عرفت كنجمة سمراء في سلسلة من الأفلام خلال السبعينيات.
يروي الفيلم قصة امرأة سمراء تعمل مضيفة في أحدى شركات الخطوط الجوية، إلا أن هذه المرأة تستغل عملها الوظيفي للإثراء غير المشروع حينما تتعامل مع تاجر السلاح (روبي) الممثل (صموئيل جاكسون) من أجل تسريب أمواله في عملية غسل أموال، وتسعى على تمرير المخدرات، إلا إنها تجد نفسها في مصيدة وسط رجال احترفوا القتل والتهريب، والمخرج غير مكان الأحداث حسب النص الأصلي الروائي من ميامي لينقلها إلى لوس انجلوس ويغير البطلة من بيضاء إلى سمراء.ويعد مشهد عملية تبادل النقود المرتكز الأساس لفيلم (جاكي براون) والمأخوذ عن رواية(المور ليونارد)، نسبيا المشهد هو احد أطول المشاهد على طول الفيلم، فما قبله هو تمهيد له وما بعده هو نتيجة لما حصل فيه. يقع هذا المشهد تقريبا في منتصف الفيلم وفي الفترة الزمنية مابين الثالثة وخمسون دقيقة والرابعة وخمس عشره دقيقة أي في حدود اقل من نصف ساعة.
وواضح أن تارانتينو وضع ثقله كله في هذا المشهد، إذ أنه يفككه إلى وحدات كي يعاد بنائه كوحدة كاملة في ذهن المتلقي، فيتكرر المشهد ثلاث مرات ومن وجهات نظر مختلفة لحدث واحد، لذا جاءت المشاهد بثلاث مقاطع سردية تستكمل فيها نهاية الحدث، رغم أن المشاهد الثلاثة اتحدت في بنية المكان واستكملا بعضهما زمنيا، أما الكاميرا فقد كانت هي السارد الأول...يشكل مشهد(عملية خداع الشرطة وتبادل النقود) الموقع الرئيس في نص الفيلم فنيا من حيث البناء الروائي العام، أما من حيث ارتباطه بخط سير الفيلم العام فهو ينضوي تحت إطار بحث جاكي براون عن وجودها وكينونتها ومحاولة الخلاص من القوى التي تحيط بها( الشرطة، أفراد العصابة، التحري الخاص).
تبدأ لعبة جاكي براون بخداع الأطراف الثلاثة أولا من خلال إيقاع التحري الخاص(ماكس) في هواها ثم بالاستحواذ على نقود الشرطة من جهة ومن جهة أخرى تخدع أفراد العصابة من خلال استحواذها على المبلغ وإفلات العصابة من قبضة الشرطة.....نظرة سريعة للفيلم بشكل عام تبين أن المشاهد الثلاث في بنية المشهد الرئيسي هي الرابط لعصب الفيلم أي أن المشهد الأساسي مشهد السرقة بذاته مفكك إلى جزئيات وهذا يرجع إلى سيطرة الشكل الفني الواحد خلال بنية المشهد وان الأزمنة فيه تتداخل لأنها تنتمي إلى فترة زمنية واحدة هي فترة وجود جاكي براون في محل بيع الملابس حيث تجري هناك صفقة تبادل النقود.
تدخل جاكي براون محل لبيع الملابس وهي تحمل في يدها كيس كبير نعلم مسبقا انه مملوء بالكتب وضعت فوق الكتب منشفة غسيل وفي اليد الأخرى حقيبة مملوءة بالنقود التي علمت(أشرت بعلامة) من قبل الشرطة إذ وضع الضابط المكلف بالعملية نقطة سوداء فوق أرقام النقود، تدخل جاكي وترى بذلة جميلة تتفق مع صاحبة المحل على شرائها، تدخل غرفة تبديل الملابس وهناك بعد أن تغير ملابسها القديمة بالجديدة تبقى تنتظر... من الغرفة المجاورة نسمع صوت ميلاني تدفع بكيس المخدرات لجاكي وهي بدورها تدفع لها بكيس الكتب بعد أن وضعت فوق الكتب مجموعة من النقود وغطتها بالمنشفة وهو إيحاء إلى ميلاني بان الكيس مملوء بالنقود بعد ذلك تفرغ الحقيبة الممتلئة بالنقود في كيس ميلاني وبذلك حصلت على النقود والمخدرات. بعد ذلك تخرج مسرعة تدفع نقود البذلة الجديدة وتخبر صاحبة المحل أن أحدهم قد نسي كيس الملابس خاصته في غرفة التبديل، ثم تركض باحثة عن الشرطة لتخبرهم إن ميلاني هربت بكيس النقود ، تهرع الشرطة للبحث عن ميلاني ،هنا يقطع المخرج الحدث ولا نعرف مصير العصابة أو النقود ، ليبدأ من جديد.
يصل لويس (روبرت دي نيرو) وصاحبته ميلاني إلى محل بيع الملابس( إعادة للمشهد) يريان جاكي براون وهي تقف مع صاحبة المحل لتتفق على شراء البذلة الجديدة، تدخل جاكي لغرفة تبديل الملابس، لويس وميلاني يريان التحري الخاص ماكس في نفس المكان وهو بدوره ينظر نحوهما، يدفع لويس ميلاني نحو غرفة الملابس خلف جاكي لتعود بعد لحظات تحمل كيساً (وهو الذي فيه الكتب) في تصورهما انه كيس النقود، يمسكها لويس من يدها ويخرجان مسرعين، يتيهان في معرض الملابس ثم يتيه لويس مكان سيارته في موقف السيارات تسخر منه ميلاني كونه رجل عصابة مهزوز يستخرج مسدسه ويقتلها ثم يصعد سيارته وينطلق ، يقطع المخرج المشهد.
يصل التحري ماكس بسيارته إلى محل بيع الملابس يدخل يرى جاكي وهي تشتري البذلة الجديدة ثم يرى دخول ميلاني ولويس المرتبك، لويس بدوره يرى ماكس ، يدفع ميلاني نحو غرفة الملابس، ماكس يراقب خروج ميلاني وهي تحمل كيس النقود ( الكتب ) تتجه نحو لويس وينطلقان هاربين ، يبقى ماكس ينتظر تخرج جاكي، تدفع ثمن البذلة وتخبر صاحبة المتجر أن أحدهم نسي كيس الملابس خاصته في غرفة التبديل ، تخرج مسرعة في بحثها عن الشرطة ، هنا يدخل ماكس بكل ثقة نحو صاحبة المتجر ليخبرها أن زوجته نسيت كيس ملابسها في غرفة التبديل، يدخل ويخرج بعدها حاملاً الكيس الذي يحوي النقود.
قدم المشهد الأول بحدود(16 )لقطة،( 10) ثابتة و ( 6) متحركة وزمن المشهد بحدود الخمس دقائق
وقدم المشهد الثاني بحدود(13 )لقطة،(9 ) ثابتة و ( 4) متحركة وزمن المشهد بحدود الخمس دقائق أيضا
فيما كان المشهد الثالث بحدود( 26)لقطة،(20 ) ثابتة و (6 ) متحركة وزمنه أيضا كان بحدود الخمس دقائق
هذه المشاهد قدمت محاولات جاكي براون للهروب والإفلات بالنقود وطبيعي أن المعنى في هذه المشاهد الثلاثة تترابط لتشكل وحدة واحدة لايمكن تجزئتها إلى وحدات أصغر. وقد يبدو هذا المدخل مطولاً ولكنه ضروريا للتحليل معتمدا فيه على بنية نص المشهد عامة مع الحركة داخل بنية المشهد نفسه.
المكان لبيع الملابس كبير جدا وواسع غير محدد الأطراف ورغم محدوديته هذه كمكان كان التعامل مع لقطات ثابتة معتمدا على اختلاف وجهات النظر ، سيطر عليها الرؤية الموضوعية للكاميرا، وهذا ما أسس بالضرورة لرؤية مركزية بعيداً عن الغاية السردية المرتبطة كلياً ببنية النص أو حتى الجمالية ، لذلك اتخذت الكاميرا موقعا أفقيا لموجهة الشخصيات والأشياء ، من جهة أخرى سعة المكان وعمقه قد توحي بالهوة الشاسعة بين الشخصيات رغم حصار الكاميرا في هذا المكان الواحد، إنها مجموعة من الشخصيات لا تربطها أي علاقات اجتماعية سوى هم مباشر واحد هو المال.
تمثل الشخصيات الخمس المرتكز الأساس للمشهد مع غياب الشخصية الرئيسية ( صموئيل جاكسون ) المخطط للعملية والتي يديرها من خلف الكواليس، منذ البداية نعرف هوية الشخصيات لذلك تكون لدينا المعلومات كاملة عنها وهي تدخل متجر الملابس...نبدأ من الشخصيات الأكثر أهمية وهيمنة على بنية المشهد:
- جاكي براون:
مضيفة طيران تعمل في الخطوط الجوية، صعوبة العيش تجعلها تعمل في التهريب معتمدة على وظيفتها في الطيران تحاول أن تبني علاقة محبة مع التحري الخاص ماكس الذي أخرجها من السجن بكفالة.
- ماكس :
تحرٍ خاص يعمل بحيوية ويهوى الصعوبات والمخاطر وهو من أخرج جاكي من السجن عندما اعتقلت بعملية تهريب وبدافع من رئيس العصابة صموئيل جاكسون.
- لويس وميلاني :
لويس رجل عصابة يعمل لدى الرئيس ، عصبي ، خائف ، مهزوز ، لا يتردد في القتل إذا عجز عن المناقشة وهو ما يفعله مع ميلاني فور خروجهما من المتجر عندما تستفزه بعدم معرفته أين أوقف سيارته خارج المحل .........ميلاني فتاة عصابة لعوبة ، طفلة ، تكره الكل وتحب الحياة فتخسر حياتها.
لم يستعمل الحوار بكثرة في هذا المشهد سوى انه اظهر لنا شخصية لويس المهزوزة وطفولة ميلاني، أما حوارات جاكي القليلة مع صاحبة المتجر فقد أوحت بشخصيتها القوية الواثقة.
ومن خلال ما تقدم تعرفنا على الشخصيات ونحاول إعادة صياغة شخصية جاكي براون باعتبارها المحور الذي يحرك الأحداث ويلخص القصة.
تعد جاكي براون بطلة الحكاية والشخصية الرئيسية فيها حتى أن الفيلم بأكمله حمل عنوانها، والحكاية تأتينا عن طريقها ومنها ، فالاستعدادات الآنية وليدة الحاضر تعبر عن وجهة نظرها في ما مر بها من أحداث... بداية جاكي كموظفة تجعلها تستغل مهنتها في عمليات تهريب صغيرة إلى أن تقع في قبضة العدالة فتخرج بكفالة من قبل رئيس العصابة وعن طريق التحري الخاص.. هذا الضياع الناتج عن انعدام وجود نظرة واضحة عندها لما ستكون عليه حياتها مستقبلا، لذلك تقبل بالعملية الأخيرة كي تؤمن مستقبلها وتهرب بالنقود نحو حياة جديدة وبمساعدة ماكس...وكما عبرت سابقا فان جاكي تعبر عن طيبعة الصراع الداخلي الذي يعتمر في داخلها في محاولة لاستخلاص الحقيقة في شخصيتها، واستكمالا لطريق سير الأحداث فان ظروفها القاسية تفرض عليها القبول بالعملية الأخيرة مع تفكيرها بالخلاص والنجاة من أيدي الجميع (الشرطة + العصابة). وبعودة سريعة إلى المشهد نرى أن مجموع الشخصيات كما اشرنا لا تربطهم روابط اجتماعية مباشرة لكنهم جميعا متجانسون في سلوكهم ألانحرافي ، هذا التناقض في ما يصبون إليه بحياتهم يسقطهم في بؤرة الرذيلة، لذلك نجد أن الجميع يفكر بالخلاص:
جاكي براون :التي تحاول تأمين مستقبلها.
العصابة :نجاح العملية وزيادة نفوذهم المالي.
التحري : البحث عن النجاح الوظيفي والمكتبي.
الشرطة : في محاولتهم للقبض على العصابة وتحقيق نجاح معنوي.
في مثل هذه الظروف والتناقضات في دوافع الشخصيات فان الأفعال تنعكس لتولد ردود أفعال نتيجة الضغط بين الشخصيات داخل صراعهم الباطني وصولا للحل النهائي : الخلاص .....ورغم ان الصراع الذي دار داخل المشهد اتخذ رؤية موضوعية انبثقت من معطيات الأحداث إلا أن طبيعة العمل الدرامي لفيلم (تارانتينو ) جعلته يتعامل مع النص برؤية دقيقة وواضحة وبرؤية مغايرة لأفلام الاكشن والعصابات، وكما أشرت أن الحدث يأتي بزمن السرد الحاضر وبرؤية سيره موضوعية، فان عبقرية تارانتينو وتجاوز نقل الأحداث عن طريق التوثيق بل ركز على الشخصية وردود أفعالها وانفعالاتها الباطنية والظاهرية لذلك كانت الصورة خير من دعم السرد والحدث.