شاكر لعيبيمن يقرأ ما يُكتب في العراق الأدبي اليوم عبر بعض صحافته الورقية أو نشراته الإلكترونية قد يُلاحظ أن هناك، لدى أصوات نمتْ وكبرت ثقافياً في سياق سابق، نبرة من التوتر والإطلاقية والعُجالة والاعتداد المتضخم بالذات.المشهد الأدبي والشعري مختصر بما يُعْرف فحسب
وبما يَحْضر في الإعلام. الحجج النقدية مستلة مما لا اتفاق بشأنه بل مما يصير إشاعة ثقافية. قلة الصبر على قراءة النصوص الأدبية قاعدة بسبب التصفح الإلكتروني قليل الصبر، حديث الولادة في البلد. المفهومات الأدبية ذات الأصول المؤصلة، متشابكة فيه ومختلطة، ويوحي الكلام عنها بمعرفة كل شيء دون أن يصدر عنها دائماً معرفة محددة بشيء محدد. الكتابة تتم في درجة عالية السخونة منسجمة مع حرارة المتفجرات وعراك السياسة المتحول بين فينة وأخرى تحولاتٍ جذرية. النقد المحموم معدوم بإطلاق على كل ما لا ترتضيه الذات الكاتبة في سياقها النسبيّ. الكتابة حكاية مجانية قليلاً قبل أن تكون حكاية متفقاً على أصول سردياتها. الغزل دائب منذ هذا الوقت عينه بما يجيء من خارج البلاد فقط، كأن هناك اتفاقاً، لا سامح الله، على أن حاضرها الأدبي شاحب وعليل. التهم الصحيحة والأقل صحة لا يًدقق فيها باسم حرية الرأي وشخصية الكلام. لا مرجعية ولا أيطيقيا باسم أنا عليا، بَعْلٍ ثقافيٍّ، لعل البلد يتعرّف عليها للمرة الأولى مرتكباً أكبر الهفوات باسمها النبيل. الأدباء الذين أخذوا الدنيا غلاباً باسم الدين الجليل يستندون إلى شرعتين فاتكتين: الأهلية الميتافيزيقية الدائمة والغلبة الدنيوية الراهنة من دون أن يمحِّصوا نصوصهم ويجلوها. نصوصهم مبرأة منذ البدء من كل عيب بسبب ذينيك القانونين مُسْبَقيْ الصنع. الشعر هنا نشيج زائف في احتفال جماهيري. النثر هنا سيولة تهدّد بالاختناق. لا أحد يصعد مربداً، في الجنوب، إلا لكي يحتفظ به، لا أحد يستذكر في يوم خميسه ما حدث في اليوم السابق عليه. الأدب يستعين بإرث دجلة لكي يكون شاهداً مشكوكا بأهليته على الشهادة من قبل آخرين. مع كل انفجار ثمة لوعة إنسانية كبرى لكن ثمة أكذوبة أدبية كبرى. من خارج البلاد يَكتب بالسيولة ذاتها، السيولة السائلة بشكل لا حدَّ له، كتبةٌ عاطلون عن العمل سوى التحديق ببطالتهم من دون رد فعل سوى رقن تعليقات على ما يحدث من بعيد. من خارج البلاد ثمة بطالة تُعبِّر عن نفسها ببطر أرستقراطي مشوّه بفضل وضعها المادي المريح، المُرْبح. الكتابة اليومية المفرطة بفضل منحة اللجوء السياسي الباذخ في شمال العالم. من هناك يقع تقرير مصير البلاد وتقييم نصوصها الأدبية، لكن حتى من دون التوصُّل إلى كتاب واحد صدر في داخلها أو فيما يجاورها. ثم هناك الهجرة السعيدة إلى بلاد الكنانة، وتقرير مصير الأدب العراقي منها وعبرها دون اعتبار لتاريخ مدوّن، أو سوى لصديق حميم. سيُكتب من مصر العزيزة نص الرحلة القاهرية المتأخر لأكثر من قرن على رحلة الجواهري إليها ورحلة أخوة عراقيين قريبي العهد لا تعرفهم، ببساطة، رحلة الولد السائح- الشاعر الثمل المنفرد. ًثم الهجرة الطوعية الجديدة للبنان حيث التوتر ذاته والأكذوبة الطيبة القلب عينها للولد السجين في العراق طيلة ثلاثة عقود من الحرب، التي ينسى فيها أثناء حجيجه لجبل لبنان آثار أسلافه المقيمين هناك منذ غزو المغول. إنه يمشي بخطو فريد، وليس على خطاهم، انطلاقاً من التوتر الموصوف عينه، وليس من فردانية الشاعر المبدع الماشي بخطو مجيد.هذا وضع مأساوي في الغالب الأعمّ، تختلط فيها السيموطيقيا بالأنثرويولوجيا بالفلسفة بعلوم السحر بأدب السخرية بعلم النفس بالترجمة من اللغات الأجنبية بتأشيرات الدخول بالمطالب النقابية بنوعية ورق النشر المدفوع مسبقاً بالفقه بالشاعر العربي الكبير بالملكية العقارية بالنزعة الأنثوية بالمهجر بالرصانة والرطانة. ثمة توتر على كل صعيد لعل الأقرب إليه من أدباء العراق يعيشون فيه بزُهْدٍ، منغمرين فيه بقواهم أو مغامرين بحيواتهم من اجله، بينما من يحسبون أنهم يراقبونه من بعيد، فإنهم يذرفون دموعاً حارة مثل بطل أغنية جاك بريل الذي يذرف دموعه كما يبول البحّارة في "مرفأ أمستردام".
تلويحة المدى :التوتر في الخطاب الأدبيّ
نشر في: 16 إبريل, 2010: 05:03 م