إضافة الى ماتمنحه لي زيارة المعارض الجديدة من بهجة، وما توفره من إطلاع على مايقوم به الفنانون في مراسمهم من تقنيات، فأنا أعِدُّ هذه الزيارات، بمثابة هواية محببة الى نفسي، هي تشبه الادمان الى حد كبير، لكنه إدمان جمالي، يجعل الرؤيا أكثر إتساعاً والخيال أَشَد خصوبة والروح أعمق صفاء. لكني إضافة الى كل هذا، أعشق بشكل خاص المعارض الغريبة والنادرة، وأحب المعارض التي لا تتكرر. من هنا جاءت زيارتي لمعرض الحقائب الذي يقام الآن في امستردام.
خرجت من محطة القطار الرئيسية، لأصل بعد خمس دقائق الى صرح هندسي مذهل يشبه الى حد بعيد القلاع القديمة بواجهته الواسعة المرتفعة المبنية بالطوب الأحمر، والتي تعلوها خمسة أبراج إستقرت على حافات الواجهة الطويلة، بينما ظهرت في الأسفل ثلاثة أبواب مقوسة تمنح الناظر راحة، وسط هذا المكان المهيب. حضرتُ الى هنا لمشاهدة المعرض والكتابة عنه، وها هو هذا البناء الجميل يشغلني أكثر من المعرض ويحتويني بتاريخه وقوة حضوره وتأثيره الذي لا مناص منه. هذا الصرح إسمه (بورس فان برلاخه) وهو واحد من أهم مائة بناية ضمن التراث الوطني الهولندي، وقد صممه وبناه المهندس هندريك بيترس برلاخه، سنة ١٩٠٣ ليكون مكاناً تجارياً يتعلق بالبورصة وتجارة امستردام، لكن هذا المكان الذي تزوج فيه ملك هولندا وليم الكسندر من الملكة مكسيما قبل ١٥ عاماً، تحول الآن الى أهم مركز ثقافي وفني وإجتماعي، حيث تقام فيه المعارض الفنية وتعرض الافلام وتُعقد فيه الاجتماعات الكبيرة والمهمة وتعرض الكتب وتقام الأمسيات الثقافية والموسيقية، وكذلك بعض المراسيم الرسمية، وبالتأكيد الكثير من الصفقات التجارية الضخمة. وبسبب كل هذا التأثير والحضور الجمالي لهذا المكان تطلق الصحافة الهولندية عليه تسمية (الحراسةالليلية للعمارة) مقارنة بلوحة ريمبرانت الشهيرة.
سحبت نفسي من غواية هذا المكان الجميل لأدخل المعرض الذي طار بي نحو العصر الذهبي للسفر، والذي شغل مائة وخمسين سنة مضت. كل زاوية في المعرض تهمس بقصة خاصة بها، وكل حقيبة تدعوك لمعرفة حياتها، وتطلب منك أن تتحسس آثار الأصابع التي حملتها وتركت فوقها تلك اللمسات التي لا يستطيع الزمن محوها، لتكون شاهداً على تاريخ طويل من السفر والرحلات والتنقل برشاقة بين وسائط نقل تلك الايام البعيدة. كل حقيبة هنا لها شخصيتها وغرض إستعمالها وأهميتها، وثمنها طبعاً.
مئات الحقائب عرضت في هذا المعرض الإستثنائي، وكلها تعود لجامع تحف سويدي، قرر عرضها في معرض واحد، ليرينا الجانب الأسطوري للحقيبة وماتعنية خلال سنوات طويلة مضت. أحجام ومواد وتصاميم وألوان تأخذ العقل، حيث إستعمل في صناعتها وتصميمها الخشب والجلود والأقمشة والحرير وبعض الشرائط التي صنعت من مواد مختلفة، بعض هذه الحقائب كبيرة وقد ِثُبِّتَتْ زوايا معدنية على زواياها، والأخرى صغيرة تعود لنساء متيسرات، وحقائب أخرى أشكالها دائرية أو مستطيلة، أو حتى أشكالاً غير منتظمة، وكلها تعود للفترة التي بين منتصف القرن التاسع عشر حتى نهاية القرن العشرين.
يالها من رحلة عبر قطار الزمن، أتطَلَّعُ من خلالها على هذا العدد من الحقائب التي لم أتخيل مشاهدتها مجتمعة في مكان واحد، وفي معرض فريد لن يتكرر. كنت عادة ما أتجول مع حقيبتي وسط المتاحف، وها أنا أتجول الآن وسط الحقائب!
بعد هذه الزيارة وقفت أمام البناية الجميلة، ساهماً في موضوع الحقائب والسفر، ثم تجولت وسط امستردام، لأتوقف بعد لحظات وأفكر - كوني مازلت مأخوذاً بعالم الحقائب- بسحبِ خطواتي نحو (متحف الحقائب) الذي تُبعدني عنه بضع دقائق. وها أنا أسير الآن بهدوء بإتجاه هذا المتحف، لكني سأرجئ الكتابة عنه للأسبوع القادم.
إدمان جمالي
[post-views]
نشر في: 29 ديسمبر, 2017: 09:01 م
يحدث الآن
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...