يبدو أن الاحتفالات بعيد السنة الميلادية الجديدة لم تعد مقتصرة على المسيحيين، ليس في العراق، إنما في الشرق العربي كله، ونلاحظ ذلك من خلال أشجار الميلاد المضاءة والملونة والتي تزين واجهات المنازل والمولات والمحال التجارية في مدن غادرها معظم المسيحيين الذين كانوا فيها، وكانت إحدى السيدات الألمانيات اللواتي يزرن البصرة ويقمن في فنادقها قد قالت ساخرة: يحتفلون بعيد ميلاد السيد المسيح ويهجّرون المسيحيين، يالها من مفارقة!!
وهو أمر محزن حقاً، فلم يبق من أبناء الطائفة المسيحية في البصرة، على سبيل المثال سوى بضعة مئات من الأسر، بعد أن كانوا يشكلون نسبة كبيرة من السكان، ويقطنون ضواحي واسعة، كانت مغلقة عليهم ذات يوم، مثل بريهه والعزيزية والجنينة وكمب الأرمن وغيرها، بعد أن كانوا يزيّنون الشوارع والأسواق في صباحات الأحاد، وفي المناسبات الجميلة، بعد أن كانت الأجراس تقرع في كنائسهم الكثيرة بالعشار والطويسة والبصرة القديمة والجمهورية والمعقل والساعي والمناوي. أمر مخيف بالفعل أن لا تتزين المدينة بالنساء الجميلات، بالصبيان الحلوين، بالقساوسة وهم يخطفون، محيّين أصدقائهم بثيابهم السود، وهم يطعمون أبناءهم الحلوى المقدسة.
قبل نحو من أسبوعين توفي المصور الارمني هاكوب وقبله فقدت المدينة أجمل مصوريها كارو، وقبل ذلك ما عدت أرى المصور آرام صاحب ستوديو فينوس، ومثل ذلك سألت عن صديقي عازف الكيتار والمصور سركيس الذي كان معي جندياً في البحرية، صاحب مختبر الخليج العربي بشارع الوطن، ومثل صديقي المسرحي كارين ساموت المقهور رعباً، ولو كشف لي لملأت الورقة باسماء الذين رحلوا وماتوا وقتلوا، هل أقول عماد القس، صاحب مخزن الوطني، ابن أخ استاذ الانجليزية سالم ججو، أم أقول مطعم كوخ دجاج، الذي لا أعرف اين اختفى بعد أن قُتل شقيقه عماد؟ ما الذي يحصل؟ ولماذا تخرب البصرة وتتلطخ بالدم الأسود أسواقها؟
كم مِنَ البصريين من لم يفحصه طبيب الباطنية الأشهر سركيس أوهانسيان، ومن من آبائهم من لم يحدثه عن طبيب الفقراء كشيشيان، وكم منهم من لم يفحص عينيه الدكتور رحيم ممو وشوارش ماردورسيان، وكم من آبائهم من لم يدرسه الانجليزية الاستاذ لورنس، بل وكم من آبائهم من لم يصنع حذاءه الأمهر عبد الاحد، ومن منا لم يشتر الكتاب المقدس من الخياط، الذي دكانته خلف كازينو الموعد، ومن من العاملين في قطاع الصناعة، من الشيوعيين تحديدا، من لم يكن المهندس جبّو زائرا في خليته الحزبية، بل هل بين مربي الأبقار ومزارعي النخيل والخضار من لا يتذكر السيدة ام جنة؟ هل نسيت (جلال يعقوب) المسيحي المصلاوي (أبو علاء)، صاحب معمل نجارة الخليج العربي الذي تكفل معيشة أسرة الاسطة محمد عمار منذ لحظة استشهاده في الحرب العراقية الايرانية الى اليوم. هل أقول هو الذي تبنى كل صغيرة وكبيرة لأبناء محمد، هل أقول إنهم مداون لفضله الى اليوم، الفضل الذي لا يسميه هو إلا واجباً.
المدينة تستعيد ذكرى مدنيتها وتحضرها اليوم عبر صورة بابا نؤيل، عبر شجرة للميلاد، عبر جرس يقرع في أعلى كنيسة، عبر ذكرى مؤلمة لمقتل بائع نبيذ، نحن الذين نتحدث عن أعياد الميلاد، الآن نكرر قولنا القديم إن المدينة بدون مسيحيين ليست مدينة.
عيد ميلاد مجيد لكن بمسيحيين أقل
[post-views]
نشر في: 26 ديسمبر, 2017: 09:01 م
جميع التعليقات 1
أم رشا
الجهل هو بيت الداء والذي نزح من سراديب الظلام إلى اجمل المدن إلى بغداد والبصرة وليبدأ سلسلة إبادة لكل ماهو جميل وراقي والمسيحيين أول الضحايا وليسوا آخرهم في البصرة وغيرها ...أسفي على مدينة الفرح والفن والوناسة والطيبة أن يحصل لها ذلك ولا تفوح منها الا رائ