TOP

جريدة المدى > عام > روح المكان.. أيها الفقر، الحياة أعظم منك!

روح المكان.. أيها الفقر، الحياة أعظم منك!

نشر في: 24 ديسمبر, 2017: 12:01 ص

 أظنه هنري مللر الذي انتبه الى أمكنة هادئة أو مقدسة وتساءل إن كانت ماكنة المستقبل ستنحرف عن هذه فتسلم أم ستسوّيها وتمضي؟ لو أشدّ على ذاكرتي، أقول ربما ورد هذا في كتابه sexit ، ست مقالات. ليكن القائل من يكون فهو تساؤلنا أيضاً. أنه اهتمامنا وأننا نعيش في عواطفنا أكثـر مما في عقولنا والمنطق. لذا كثـرت مراثينا ولا نخلو يوماً من شعور بالأسف على شيء حتى امتلأت أشعارنا بالفقد وصار ثيمة في الأغاني. 

 

الماكنة لا تعرف ، هذا مكان هادئ ذو معنى وتلك أرض ليست سوى تراب ولا هذه بقعة مريحة للنظر والروح وتلك وعرةٌ بلا معنى. هي تسحق الاثنين وتسويهما لتصير محطة وقود وربما سجناً. مستقبل أي بقعة خاضع لسلطة المال وخارطة المهندس . هو أيضاً مثل الماكنة يرسم على الورق بعيداً عن الأوصاف. هي أرض حسب وهو عمل!
والآن نتساءل من الذي يقرر أهمية أو جمالية أي بقعة أو أي مبنى قديم سيطاله العمران أو الهدم؟ هل نحن بأذواقنا التي وراءها ثقافتنا اليوم واحتياجات نفوسنا أم حاجة المستقبل التي تخص أجيالاً قادمة أكثر مما تعنينا؟ المشكلة إننا محمّلون بقيم جمالية وبعواطف كأننا حملتها الدائمون في العصر. المتطلبات أكبر منا. ونحن في حرج بين محبّاتنا وبين ضرورات التقدم أو التغيير. ليس معقولاً أن يتخلى الزمن والحياة عن تقدمهما أو أن تغير الحياة مجراها رعايةً لعواطفنا وأذواقنا. لابد من تضحية ونحن عادةً من يضحون بعواطف أو بقيم أو بمفهومات كما نضحي بأيام وأعمار.
لذا كان دور الأدب دوراً تعويضياً متعاطفاً. ونحن نقرأ المئات من صفحات الكتب الادبية، نحس بمدى الأسى وسعته وكم هي مشاعر الرثاء والعواطف المنكسرة فيما يُكتَب من شعر وما يُكتب من رواية والمسرح يعيش على عنصري الأسف و تراجيديا الشخوص. ولعل هذا أيضاً وراء ارتياحنا للرحاب الخضر أو الأشجار في الطريق أو المباني المنعزلة حيث تهب عليها وتنثني حولها الرياح. سعادتنا بالانسجام، بالهدوء مع شعور بالأسف بأن هذه ستكون غيرها غداً أو أنها يوماً ستغيب.
مرةً، في ندوة أقامتها المدى عن المعالم التراثية، حيث الكلام كثير عادةً عن رعاية هذا البيت التراثي وذاك وهذا "الرمز" وذاك .. كنت مشاكساً غير راغب بفرط احترام القديم والبعد عن الحاضر وعدم التفكير باحتياجات المستقبل: ماذا تريدون يا سادة، هل تبقى كل خرائب بغداد ونبقى نصونها وأين تعيش الأجيال وما جدوى مبان هي أصلاً هندسة أجنبية واردة مما وصل العراق بعد الحرب العالمية الأولى أو الثانية ولا أصالة وراءها. حسناً لنصن ما فيه فرادة لا كلما فيه قوس وقبة. وهل فكر مهندسونا اليوم بابتداع مبنى بشكل واحد من منجزات العصر كأن يكون على شكل سفينة فضاء أو ما هو قريب من الطائرة او أي عمل بانورامي يطل على أكثر من جهة أو بعد؟ هل نبقى في الاقواس والقباب، القباب التي هي في الأغلب مستوحاة من النخلة وقبة سعفها الأخضر؟ وهل كل قديم مهم أم هو الأثر المحتفظ بقوة إيحائه أو إشعاعه؟ أرأيتم تلك النجمة – الشمس التي كانت جميلة وناطقة حيَّة في العلم العراقي بعد تموز 1958؟ والصقر أو النسر في العلم الروسي الجديد؟ هذا مستوحى من لُقية حثية عُثر عليها في أرض تابعة اليوم لروسيا واحتُفِظ بها في المتحف. نعم من الحثيين القدامى ولكنه أثر ظل قوياً ومحتفظاً بجوهر إشعاعه. عدا ذلك ليس كل مبنى قديم ذا قيمة ولا كل أثر مهم، اللهم إلاّ للتوثيق.
هذه انعطافة غيّرت الكلام عن عواطفنا. حسناً ما يزال موضوعنا هذه الأمكنة التي تلامس أرواحنا، قبة قديمة، منحنى طريق، فضاء خال أو صخرة كبيرة بارزة من زمن في الحقل. هل نمنع المستقبل من أن يمسها أكراماً لقيمنا الجمالية اليوم ونحن مغادرون وجيل آخر قادم بذائقة اخرى وأجيال بعدهم تجيء؟
لكننا يمكن أن نكون اكثر صراحةً وننحو بالكلام أو بالتساؤل منحاً وجودياً: هل نعتز ونرثي هذه الأمكنة، بقاعاً أو معالم، أم نحن نرثي انفسنا بزوالها؟ هي بالتأكيد تلامس أرواحنا ولها صلات خفية بنا، حاضرةٌ هي ونحن حاضرون.. يبدو أن روحاً شعرية تدخلت، فأقول وماذا وراء هذا الضجيج والفوضى وماذا سيبقيان لأرواحنا؟ الماكنة لها مصابيح ولكنها عمياء لا ترى ولا تشعر ولا تعرف ما تسحق وما تهدم وتزيل. توقف ايها القدر!
هذا احتجاج مبطن ضد المزيد من خساراتنا. لكنه منطق غير علمي. للزمن القادم جماليات أخرى وسواءٌ كانت جماليات غير مستقلة عن النفعية ام كانت سليمة، فهو العصر وما يأتي نتاج ضروراته ولسنا الحكام الأبديين فيه.
حسناً إن الماكنة، الحادلة او الجرافة، مثلاً، لا تعرف القداسة ولا تعرف ما هي المحبة أو الذكرى والا لتأخرنا كثيراً عن مشاهدة الجسور العظيمة التي تنقل الناس والحافلات من ضفة الى ضفة. ولَما رأينا مجمعات سكنية تؤوي الناس بديل الصرائف والبيوت العتيقة وما رأينا أسواقاً حديثةً وحدائق وطرقاً جديدة في أمكنة كانت خراباً لكن تثير عواطفنا. هو إشكال نتردد في الرضا به. نحن لا نريد ان نفارق ولا نريد ان نخسر. ونريد المستقبل ولا نريد التغيير.الاجيال القادمة أيضاً ستأسى على زوال ما يريحها وما تألفه وتأنس إليه. هكذا إذاً هي الحقيقة: تتلف ثمار الغابة لتنبت من بذورها أشجار جديدة. وتتلف الأشجار بجذوعها والورق لتتغذى عليها أشجار أو حياة جديدة. ونخسر لنربح رؤية أخرى وحتى نغيب، وهذه أمر الحقائق! أسفاً لعواطفنا، نحاول قدر الامكان ان نستثني هذا المكان الجميل وهذا المعلم القديم العزيز ونستثني انفسنا ولا استثناء. الماكنة العمياء تقلب كل شيء امامها وتمضي. العزاء ان حياة جديدة قادمة! اليوم، وأنا أخطو بين بيوت هي كابينات صغيرة تؤوي بشراً، قلت: حسناً وجدوا في هذا العالم مأوى. أكيد أنهم يرون فيها ما يقربها لأرواحهم وأنهم ألفوها وصارت فيها اشياء عزيزة ولها معناها.
حسناً كان هذا في رأينا أو غير حسن، يوماً ستزيحها الحادلات وتمسحها جرافات خشنة لا تفهم ولكن ستنهض بنايات وزجاج وأضواء. وسنرى ونحن نمر يوماً عالماً جديداً قد نتذكر قديمه أو ننسى. كيف لي أن أبدي رأياً انسانياً فيما يحصل لهذا المكان؟ وهل أنت يا ياسين بنظارتيك المزدوجتين تجد حلاً لما استعصى على الحياة منذ دهور؟
الغريب إن الوجوه الشاحبة التي كانت تطل من الابواب الصفيح، كانت بقوتها الانسانية وبمعناها وواضحةً في وجوههم وقاماتهم قوة الحياة. كانت تجد في هذه الاكواخ الصفيح أفراحها وقصص حبها واعتزازاتها بألفة بعد عمر، هي هنا اكتملت واستقرت. للحياة ما تخفيه ولنا أن نعيش... هذا الذي نراه بؤساً أوجد تناسقات دقيقة في حياة الناس وصلات حميمة بينهم نسجتها الايام وهي تمر عليهم ما استطاع الفقر بكل رداءته ان يمنعها. فهم بين هذه وتلك ينهضون كل يوم متعبة ملامحهم او راضية بقدر ويعيشون نهاراتِهم. المعايشة والالفة يصنعان حياة داخل ما نرى من حياة. فما عاد الصفيح صفيحاً وما عادت الابواب الملطخة بالازرق قميئة. هي تملك رغم البؤس فرحاً تستقبل به وترحاباً يحسه المتعب وهو يعود. ومن بعيد هي علامة وصول تحمل ابتسامتها المكتملة والناضجة للقادمين ...
لست مصطنع حقائق إذا قلت فيها حميمية نبيلة ورضا جميل وخطاب ذكريات وان لا الجوع ولا سوء المبنى ألغيا روح المكان ووردة الحياة فيه. وأن حياة أولاء الذين يعوزهم الكثير، لا تخلو ابداً من مباهج صغيرة وسعادات.
أيها الفقر ، الحياة أعظم منك !
لكن هل يكفي أن اقول هذا ويبقى الإشكال الصعب بين ما صار انسانياً ويمس أرواحنا وبين منطق التحولات الحاكمة وطاعة الماكنة العمياء؟ أظنُ على الأدب اليوم واحدةٌ من اثنتين : أما سبر جوانبنا العاطفية وصلاتنا الانسانية بمفردات الحياة، او ايضاح حال عالمنا وقدراته الفائقة والغاشمة في سحق الاشياء التي نحب من اجل ما سيكون افضل...
نعم صعبةٌ هي الاستجابة وليس سهلاً مجيء الرضا فنحن بين المتناقضين، نريد جديداً ونريد أن يبقى كل شيء كما كان! سلاماً يا أنفسنا المرهفة و المُمتَحَنة بأسئلة كثيرة، وسلاماً يا أحياء الفقراء...

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

بينهم عراقيون.. فرار 5 دواعش من مخيم الهول

هزة أرضية ثانية تضرب واسط

الصدر: العداء مع أمريكا أبدي ما دام ترامب موجوداً

البيت الأبيض: المساعدات الأمريكية أنقذت زيلينسكي من الموت

إدارة ترامب تطلب من العراق استئناف نفط الإقليم أو مواجهة العقوبات

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

موسيقى الاحد:أريش فولفغانغ كورنغولد

صورة سيفو في مرآة الوهايبي

"مُخْتَارَات": <اَلْعِمَارَةُ عِنْدَ "اَلْآخَرِ": تَصْمِيمًا وَتَعْبِيرًا > "لِوِيسْ بَاراغَانْ"

"حماس بوينس آيرس" أول مجموعة شعرية لبورخس

علي عيسى.. قناص اللحظات الإبداعية الهاربة

مقالات ذات صلة

بورخيس،هايزنبرغ وإيمانويل كانت
عام

بورخيس،هايزنبرغ وإيمانويل كانت

أدار الحوار: مارسيلو غلايسر* ترجمة: لطفية الدليمي ما حدودُ قدرتنا المتاحة على فهم العالم؟ هل أنّ أحلامنا ببلوغ معرفة كاملة للواقع تُعدُّ واقعية أمّ أنّ هناك حدوداً قصوى نهائية لما يمكننا بلوغه؟ يتخيّلُ مؤلّف...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram