بين الثقافة كفن كتابي والثقافة كمفهوم مساحة تتسع، هي مثل ما بين السياسة كفعل يمارسه ساستنا العراقيون والسياسة كفهم عام عند العباهلة المفكرين، وتبدو المسافة واسعة بين هذه وتلك، حيث أننا نكتب في الثقافة مرة ونحار في الخلاصات ونكتب في السياسة مرة أخرى ونقع في المحاذير، مع يقيننا بان المفاهيم شيء والعمل بها شيء آخر، ومع يقيننا بأننا نحيا في بلاد كل ما فيها خرب وضيع، بعيد عن المنطق، مستعص على التناول، فهذه بلاد يتآكل جرف وعي المرء فيها ساعة إثر اخرى، وتنهار منظومة القيم في روحه أنّى ذهب بنظره، أنّى حطت به راحلته.
ولأن البلاد لا تطاق، ولأن بعض عبادها ما زالوا خارج منطق الانسانية، ولأن الروح تربت على منظومتها الحق في الحب والصفح والتأمل والسكن قرب مفردة الجمال وما تعني، قرب كل ما من شأنه الوئام والسلام والمحبة، أجدني حصيفاَ وصارما أيضا في ما كتبت وأكتب وأتخذت من آراء، ومع أن كؤوس النبيذ أو البيرة الثلاثة أو كأسي العرق أحيانا، التي أعبّها ساعة أجدني منحازا الى روحي تفعل فعلتها في الروح والقلب واليد والوجه، إلا أنني ما أخطأت بحقها يوما، ولم أذهب الى ما يذهب اليه البعض منها، فانا رجل أحبني كبيراً، متزناً كثيراً. عندي من الاولاد أكثر من نصف دزينة ومن الاحفاد والاسباط أكثر من يوسف واخوته، لذا أدرك جداً حقيقة ما أنا فيه وأمامه.
أغلق باب الغرفة التي فيها مكتبي ساعة أتناولها، وأحرص على أن أبدو متوازناً مع أسرتي الكبيرة، أختبر نفسي أمام اللابتوب، أقرأ الشعر بصوت عالٍ، حتى إذا اطماننت الى لساني ويدي خرجت عليهم، أقبّل هذا وأحنو على ذاك، أصغي لهذه واهب تلك ما تحتاجه، أجمعهم تحت جناح قلبي، وأسرّهم أسرار الضوء والنور والجمال، وهم يعرفونني باذخاً، معطاءً، ومقولة"خيركم خيركم لعياله"لا أحيد عنها. لا أكتب ما يسيء لأحد، وانتقي من المفردات ما أحب، وأعي تماماً ماذا يعني أن تكون شاعراً، كاتباً. لذا أقول: أنا رجل تقربني الكؤوس الثلاثة من قول ما أنا قاصده، وأكتفي منها بما أريد. وهي تقودني الى ما أسعى لتدوينه.
ولأنها كذلك فانا أنحني لجهد أولئك المغامرين، الذين يؤمّنون لنا حاجتنا من الجعة والفودكا والويسكي أولئك المهربون الأذكياء، الذين يعبرون البرية بين بغداد والبصرة، ويعرضون أنفسهم للمخاطر، ويدفعون للشرطة الاتاوات والهدايا من أجل ايصال الخمرة للمدينة، التي يقطنها العباهلة الكبار، من الذين يحرصون على إدامة معارفهم، ومن مريدي السكر ومحبي السهر، الساعين للأنس بكل ما أوتوا من صبر ويأس، الساعين للمعرفة كما يجب أن تكون، هم اناس لهم جهود محمودة، ولولاهم لبدت المدينة لا تطاق، أنقل لهم عرفان وشكران أصدقائي في البصرة، لمثلهم ترفع القبعات.
يخدعني بائع الفستق الذي يبيعه على الرصيف، في الفسحة المتاحة له بين الشارع العام والجسر الذي يؤدي الى المقهى بالعشار، هو يبيعني فستقاً بائراً، تقادم الزمان به، وتوغلت السوس بين لبّه وقشرته وما ذلك بضائري، وقد قال سيدي أبو بحر عثمان الجاحظ:"المعرفة نصفها غفلة ونصفها تغافل"لذا سأتغافل الليلة عن معايب الناس بمن فيهم الساسة القبحاء، لن أذكر احداً منهم ومن الباعة بسوء، هذا يوم للصفح والمحبة والسلام.
يوم للصفح والمحبة والسلام
[post-views]
نشر في: 19 ديسمبر, 2017: 09:01 م