ياسين طه حافظ
بسبب التخصص في حال وبسبب عدم التفكير بوجود علاقات وأسباب مشتركة، تُصاب التفاسير بالتقصير وبعوز للفهم. هذا لا يقتصر على فهم الظواهر الأدبية أو مشكلات الأدب ولكنه حاصل أيضاً في تقدير الأحداث الاجتماعية. ولذلك أجدني ميالاً لأن أكتب في مزدوج الأدب الثورة أو الأدب السياسة أو الأدب التاريخ. في القرن الثامن عشر، في فرنسا، والدول المجاورة لها، وفي أعقاب 1789 (الثورة الفرنسية)، لم يأتِ المستقبل الأفضل. لم يجد الفقراء حياةً طيبة ولا حقوقاً ولا سلاماً. ما أفرزته الثورة من بعد: ديماغوغيين وغوغاء شوارع غاضبين وعنف، من ثمَّ حروب أوروبية. ونتيجة لذلك كان رد فعل السلطات في أمم مختلفة هو كبت الاتجاهات الثورية. وكما يحدث في أحيان كثيرة " وجدت الأصواتُ المعتدلة نفسها محتَقَرة من اليسار ومهددة من اليمين ..." هذا ما كان في القرن الثامن عشر والعقود التي تلت. بعد قرنين من الزمن انتهى الناس، من شعوب مختلفة، في آسيا وأفريقيا وأمريكا الجنوبية الى النتيجة نفسها: المعتدلون أيضاً في حال اللافعل، ينظرون بحذر لا يخلو من أسف لما يجري ... الآن أنا أتساءل : هل هذه ظاهرة متعلقة بالعمل السياسي أو الاجتماعي حسب ولا تتعداها الى المجالات الاخرى كأن تكون عالم الأدب أو الفن أو عالم الاكاديميات ؟ ألم نشهد بعد التحولات السياسية وظهور المتحمسين أو المغالين أو المدعين بالحرص على الاهداف ما يماثل ذلك؟ أو لم يكن أثر ذلك أو من نتائجه اندفاع غوغاء الأدب وغوغاء المتحمسين من أوساط الفنانين ليغطوا المشهد متهورين بقوى الثورة أو السلطة او ...، فاضطر المعتدلون والراسخون للانزواء والسكينة وهم بين حالَي الاستهانة والخوف؟ وإن القوة المتسلطة تستهين بالرصين المعتدل وإن اليساريين يرونه وتراه السلطة سلبياً ضعيفاً وإن اليمينيين المناهضين لا يحترمونه. وقد يتبادلان عليه الأدوار؟ مسألة ثانية: ألم تخلف "الفورات" وراءها جياعاً ومشردين ومن هم بلا سكن وعشرات الآلاف من العاطلين في المدن ينامون على الأرصفة وليس أمراً غريباً مشاهدة اللقطاء في المنعطفات والمجانين وأعداد الشحاذين في الشوارع؟ هذا في أوروبا، ونحن في العراق ألم نشهد، وما نزال نشهد مثل هذه المؤسفات في شوارعنا وفي الطرق وفي أبواب المشافي والمؤسسات؟ ألا نشهد نائمين على الأرصفة وأجساد موتى جانب جدار أو في منعطف، وبعد كل هذا العدد من الثورات والانقلابات؟ وفي الثقافة والأدب والفنون هل غريب علينا عدد الأدباء والفنانين الضائعين والمغتربين ومن نلقاه بائساً مخموراً ومن يشحذ ويحتال لأنه لا يستطيع رد ما اقترض أو لأنه لا يملك ما يبقيه محترماً؟ بل ألا نسمع ونرى طلبات النجدة للعلاج أو للسكن؟ وهل نجهل عدد من ماتوا وكان ممكناً شفاؤهم وأعداد اللذين أمّوا القارات للمنافي فلا المقربون للدولة أو للثورة أو للقوة المهيمنة، احترموهم واهتموا بهم ولا المعارضون المعادون شغلهم أمرهم، فكان التيه وكان ما نحن نأسف عليه ؟ لسنا ضد اليسار. أيضاً لسنا ضد اليمين. وبالنسبة لحالنا اليوم لسنا ضد من يحكمون ولسنا بصدد شرعيتهم أو عدمها. لسنا أيضاً مع القوى الضد التي هي أيضاً تفتقد روح التقدم ويحكمها روح العدوان لا روح استعادة المعنى وجمال الحياة. ليس موضوعنا هذا الآن وليس هو اهتمامنا. ما يعنينا هو دمار روح الفن. روح الفنان الذي يساوم على روحه أو يوظفها بأجر أو يؤمن إيماناً ديماغوغياً ويتصرف تصرف الغوغاء. ما يعنينا هو ذلك الذي احتفظ بنقائه وذلك الكاتب أو الأستاذ الذي يعز عليه ضميره العلمي ولا يريد أن يلوث نظافته ... هذه النقائض نجدها بوضوح في تركيبة عمال أي مصنع "حكومي" أو صحيفة أو مستشفى أو مؤسسة من مؤسسات الدولة. دائماً أولئك المندفعون بقوة السلطة ونفوذها وأولئك المعارضون أو المناؤون، أصحاب التخصص والخبرة والعلمية محتفظون بهدوئهم وبحزنهم بين هؤلاء وهؤلاء! عموماً، الملاحظ ثقافياً أن المندفعين المغالين، مفرطو الحماسة ومن ضدهم من يقفون برفض وكراهية عمياء، هذان الطرفان، وفي جميع الأوساط، هم الأقل ثقافة والأقل خبرة ومن ذوي الشخصيات الضعيفة التي وجدت قوة تتحرك بها وتنتقم بها أو باسمها او تسعى للانتفاع منها أو بوساطتها. اللذين انسحبوا واحتفظوا بهدوئهم وسكينتهم يظللهم الحزن، هم الاساتذة الكبار في الفنون وفي الآداب وفي القانون و الاطباء الكبار والعسكريون الكبار والسياسيون الكبار المحبَطون واللذين ينظرون لما يجري بأسف ولا حول. حصل لبلدان عديدة مثل هذا وهو حاصل لنا. فمفرطو الحماسات أو الهياج دائماً ما يجدون، في حشود المستائين من أوضاعهم الاجتماعية والآملين بأحوال أفضل، جيشاً رديفاً. النتيجة ان قوى مشوبة غير عاقلة بنسبة كبيرة وفاقدة الخبرة والعلمية والسلوك المدني، تضغط على الاكاديميات وعلى المؤسسات القضائية وعلى المؤسسات التعليمية والصناعية وتربك أعمالها. كما تضغط على المؤسسات الدينية الرصينة المستقلة وتغيّب صوتَها. وهي بهذا "الجيش الرديف" من العوام والمستائين تطرح مطالب تحرف الخطط الاقتصادية وتضعف هيبة الدولة والثقة خارجياً بها كدولة مستقرة ضامنة. إن احترامنا للروح الشعبي والنضال الجماهيري لا يقف دون ذكر مثالبهم وجهل بعض القيادات و اضاعة الوعي والثقافة في الصخب واللامنهجية. الثقافة، في ظروف صاخبة المحتوى غير واضحة الأهداف وغير عملية المطالب، تبقى بعيدة. الثقافة في أحوال مثل هذه تعمل في منفى! لا نعدم بين اولئك بعضاً من المثقفين، كتاباً وفنانين، كمسهمين ممتازين.. أولاء عادةً من أواسط المثقفين والاكاديميين بل غالبهم من الأدنين فناً أو علماً، يجدونها فرصة للتقدم والحضور سواءٌ في اكاديمياتهم او في مؤسساتهم وربما تسلقوا الى مواقع القيادة فيها. نحن لا ننفي وجود مؤمنين حقيقيين بينهم يعملون بحماسة وربما بتفان. هذا حقهم في العمل والتفكير ونحن على يقين بأن غالب هؤلاء لا يدوم ولاؤهم لمثل هذه الحركات المشوبة وقد يتحولون خصوماً أو ينسحبون بهدوء. ما الذي نستنتجه من حركات "ثورية" تفتقد الأصالة، تفتقد النقاء، مثل هذه؟ هذه أولاً تفقِد البلد استقراره. ثانياً تعطّل قواه العلمية المتخصصة وتنحّي ثقافته الرصينة وأسماءها. ثالثاً تضيع على البلد فرصة التقدم. وهذه عادةً تشغل مرحلة انتقال مرسومة سلفاً حتى وصول الستراتيج الجديد للمرحلة القادمة! إن ازمنة مثل هذه متعددة ومتقاطعة الأهداف لا يمكن إلا أن تكون أزمنة فوضى. وفي أزمنة الفوضى تتعطل النظريات وتكون الثقافة الحقّة في غير مكانها ...