الكتب ليست أكوام من الورق الميت.. إنها عقول تعيش على الأرفف
غيلبرتهايت
إن تاريخ الورق يرجع إلى أكثر من الفين من السنين. وفي الألف الأخيرة من تاريخ البشرية اصبح الورق جزءاً من حياتنا. ربما لايسأل أحد منا ما هي هذه الورقة التي نقرأ فيها، إنها أمامنا شيئاً مستوياً أملس، ولكن هل هذه خدعة، قرأت مرة في كتاب جميل بعنوان"المادة في حياتنا"، إن هذه الورقة الملساء ما هي إلاعبارة عن تل من ألياف متناهية الدقة تشبه حزمة قش.لايمكننا الشعور ببنيتها المعقدة لأنها هُندست على نطاق مجهري يتخطى حاسة اللمس أحياناً، أصبح الورق وسيلتنا لإنجاز رحلة الى عوالم جديدة. والكتابة على الورق هي فن تجسيد الأفكار والرؤى والتخيلات. يؤكد البرتو مانغويل إن الكتابة تنتمي إلى مجموعة فنون الإستحضار المتعلقة بتصوير الأفكار والمشاعر ونقلها. وذات مرة سُأل اينشتاين وكان منهمكاً في الكتابة: ماذا تفعل؟ فأجاب: أحاول استكشاف العالم وتأمله في حيز صغير اسمه الورقة".
في يومياتها تقدم لنا الروائية التشيلية إيزابيل الليندي سرداً تفصيليلاً لعلاقتها بالورق:"في الثامن من كانون الثاني عام 1981 تغيّر قدري إذ تلقينا في ذلك التاريخ مكالمة هاتفية ونحن في كاركاس، أخبرتنا بأن جدي يحتضر. لم أتمكن من العودة الى تشيلي لتوديعه لذلك عمدت في المساء الى وضع مجموعة من الأوراق أمامي لكتابة ما يشبه الرسالة الروحية لذلك العجوز المحبوب. أفترضت إنه لن يعيش ليقرأها، إلا أن ذلك لم يوقفني. كتبت الجملة الاولى في نشوة:"وصل باراباس عبر البحر". من كان باراباس؟ ولماذا أتانا عبر البحر؟ لم أكن محيطة بهذه الفكرة الضبابية، ولكني واصلت وأكملت الكتابة كمجنونة حتى الفجر، وحين بلغ مني التعب مبلغاً زحفت نحو السرير. تمتم زوجي:"ماذا كنت تفعلين؟"أجبته:"سحر"وقد كان بالفعل! ففي الليلة التالية، وبعد أن تناولت عشائي أقفلت على نفسي مرة أخرى في المطبخ لكي أكتب. كررت الأمر كل ليلة متناسية تماماً حقيقة أن جدي قد مات. نما هذا النص وكبر كمخلوق ضخم ذي مخالب عديدة، ومع نهاية العام كنتُ قد كتبتُ على منضدة المطبخ خمسمائة صفحة! لاتشبه الرسالة مطلقاً كانت روايتي الاولى"بيت الأرواح"قد ولدت!".
تستريح معظم روايات إيزابيل الليندي في رف كبير من رفوف مكتبتي، أعود إليها بين الحين والآخر. كانت هذه المرأة التي ولدت ذات صيف من عام 1942، عاشت معظم حياتها في بيت جدها، دار عجيبة كانت فيها جدتها مغرمة بالأشباح، في هذه الدار خالان غريبا الأطوار، أحدهما أمضى عدة سنوات في الهند ليرجع يعيش حياة فقير هندي يتكلم السنسكريتية ويتغذى على الخضراوات فقط، والآخر كان مهووساً بالقراءة، وبفضله قرأت روايات تولستوي، وأميلي برونتي وفوكنر وديكنز
في الحادية عشرة من عمرها انتقلت مع أمها للعيش في بوليفيا، بعد أربع سنوات من التنقل بين بوليفيا وبيروت والارجنتين، تعود مع اخويها الى تشيلي، لتعيش من جديد في بيت الجد، كانت قد تخطنت الخامسة عشرة بأشهر قليلة، تهيء نفسها لأن تصبح راهبة، فقد كانت في قرارة نفسها تعتقد إنها ستعيش طوال حياتها عزباء، في الأربعين من عمرها حين حمل إليها البريد ذات يوم من عام 1982 خمس نسخ من روايتها الاولى"منزل الارواح"، شعرت بالرهبة والخوف من أن يفتضح سرها وخبأتها في درج المكتب. كان عليها الإنتظار أسبوعاً لتجد الصحف تشيد بروائية جديدة، توضع صورتها الى جانب صور ماركيز ويوسا.
أحدثت الرواية ضجة بين أفراد عائلتها الذين وجدوا حياتهم مكشوفة أمام الآخرين، وقد كتبت إيزابيل قائلة:"في السنوات الأخيرة تعلمت شيئاً واحداً مؤكداً أن لاشيء يجعل روحي تُغني مثل الجلوس وأمامي ورقة بيضاء، تجعلني أشعر بأنني فتية، قوية متوهجة، وسعيدة".
الورقة المصنوعة من مادة أنعم من الخشب والحجر، فازت كحارس للكلمة المكتوبة.يكتب امبرتو إيكو إن"تكديس الورق بعضه فوق بعض على شكل كتاب باستخدام الغلاف القاسي الذي يجعله متماسكا، جعل من الكتاب حصن الكلمة لآلاف السنين".
تخبرنا كتب التاريخ إنه لم يكن ممكناً في العصور القديمة فعل أي شيء بالأفكار والحكايات سوى حفظها شفوياً ومحاولة تداولها بين الناس لكي لاتنسى، فلم تكن هناك أوراق لتحفظ فيها. كل ما كان يجري يجب على الإنسان أن يحفظه في ذاكرته وينقلها عن طريق هذه الذاكرة الى ذاكرة أخرى.
في محاورة أفلاطون"فيدروس"يروي سقراط حكاية الإله المصري وهو إله المعرفة والحكمة عند القدماء المصريين مع الكتابة وكيف أبتكرها، فقد جاء الى ملك مصر ثاميس وعرض عليه اكتشافه الجديد قال تحوت للملك المصري:"إليك أحد فروع التعليم الذي سوف يحسن الذاكرة. إن اكتشافي هذا يعتبر وصفة لحفظ الذاكرة وخلود الحكمة"، إلا أن الملك المصري رفض الهدية وقال:"إن تعلم الشعب هذا، فانهم سيعتادون على النسيان. لن يقوموا بتدريب ذاكرتهم. ما قمت باكتشافه ليست حكمة حقيقية، وانما مظهر للحكمة"ويستمر سقراط في تأكيده على دور الذاكرة مقابل الكتابة. عاش سقراط في سنة 450 قبل الميلاد في وقت كانت الكتب فيه حديثة الظهور، حيث كُتبت نصوص الإلياذة على شكل مخطوطات طويلة ممتدة يصل طول بعضها الى 60 قدماً، وكانت تلصق ببعضها البعض على أوراق قصب البردي المضغوطة والتي تم استيرادها من مصر. كانت هذه النصوص صعبة القراءة. لكن في ذلك العصر كان من الصعوبة اختراع وسيلة أخرى للتعامل مع قضية حفظ المعلومات.
********
تعرفت للمرة الأولى على حكاية طروادة من كتاب يصدر عن سلسلة بعنوان "قادة الفكر" عنوانه "هوميروس.. شاعر الخلود"، كنت آنذاك في السابعة عشرة من عمري، الكتاب صغير الحجم، ومطبوعاً على ورق من نوعية رديئة. وأتذكر إنني حين قرأته المرة الأولى لم افهم منه إلا شذرات بسيطة عن شاعر أعمى عاش قبل الميلاد بثمانية قرون، وكان اسم الملحمة التي كتبها وشغلت العالم الإلياذة. ماذا كان اسم المدينة التي عاش فيها هوميروس اسمها"أثيكا"وهي جزيرة من جزر اليونان. أما الحكاية التي يرويها لنا من خلال ملحمتيه"الإلياذة"و"الأوديسة"فهي الحرب التي قامت بين الطرواديين والإغريق استغرقت عشر سنوات.
ربما كانت طروادة أول قصة معركة اقرأ تفاصيلها، واستكشف إنها حرب قديمة جدا وبعيدة عن عالمنا، واكثر بدائية، لكنها جزء من عالم مسحور، يمكنك أن ترى فيه الالهة وهي تحارب الى جانب البشر.
كان هوميروس كما تخبرنا المصادر شاعراً أعمى، وكان ينشد شعره أمام مواطنيه في اليونان، مثلما يفعل غيره من الشعراء المتنقلين الذين كانوا يحملون أشعارهم من مكان إلى مكان. إلا أن هوميروس كان في نظر اليونان شيء آخر، فهو سيد الشعراء بلا منازع، ولم يشك في مكانته حتى فلاسفة اليونان الكبار مثل سقراط وافلاطون وارسطو الذين افردوا صفحات من مؤلفاتهم لمناقشة ما كتبه من ملاحم. فلم يشغل شاعر آخر أو أي شخصية أدبية أخرى في حياة قومه، مكانة مثلما فعل هوميروس، لقد كان بالنسبة لهم رمزاً بارزاً لقوميتهم، وشخصاً مؤثراً في تشكيل مجلس الالهة لديهم، يكتب افلاطون في الجمهورية:"إنه كان هناك إغريق يؤمنون بشدة أن هوميروس عَامَ اليونان وانه يستحق ان يُتخذ مرشداً في ادارة شؤون الناس وثقافتهم، وإن المرء ينبغي عليه ينظم كافة شؤون حياته مقتدياً بهذا الشاعر"..
وما زالت حياة هوميروس أشبه بالاسطورة، حيث تعددت الاراء فيها، إلا أن الثابت أن هوميروس ولد لعائلة فقيرة ومغمورة في إحدى مدن اليونان، وقد كان في صباه ميالاً لسماع القصائد وحفظ الشعر، وفي شبابه بدأ يلقي الشعر الذي لم ينل إعجاب المستمعين مما دفعه الى الهجرة عن مدينته لسنوات ثم يعود إليها وهو كبير في العمر لينشد الأشعار من جديد، التي اكتشف فيها مواطنوه عبقرية ونبوغاً جديدين، فذاعت شهرته وتنافست المدن اليونانية على استضافته وتكريمه.
بعد أن انتهيت من قراءة كتاب "هوميروس"، بدأت في رحلة البحث عن ما كتبه هذا الشاعر، فعثرت على نسخة من ملحمته الإلياذة ضمن سلسلة"كتابي".
تبدأ احداث الملحمة من الخلاف الذي نشب بين آخيليوس أعظم المحاربين الاغريق، وبين آجاممنون أكبر ملوكهم والقائد الاأعلى للجيوش حول مسألة تتعلق باحدى النساء الطرواديات اللواتي وقعن سبايا في أيدي الآخيين. وحين يبدأ هذا الخلاف يكون الآخيون قد بدأوا عامهم العاشر في حصارمدينة طروادة في محاولة منهم لإسقاطها واستعادة"هيلين"زوجة مينلاوس التي أغواها باريس ابن ملك طروادة واقنعها بالفرار معه الى بلاده. بعد ان كان ضيفاً على زوجها.
ثم يروي هوميروس عواقب غضب آخيليوس وكيف أن الجيوش لن تستطيع أن تحارب بدون محارب عظيم مثله.. وآخيليوس كما يخبرنا هوميروس في الملحمة، هو ابن أحد الملوك انجبه من حورية البحر"ثيتس"التي عشقها كبير الآلهة زيوس وتخلى عنها. أحبته أمه كثيراً وأرادت أن تحميه وتصونه، فأخذته وهو طفل الى نهر في العالم السفلي وأمسكته من عقب قدمه وغطّسته في المياه المقدسة. فأصبح جسمه منيعاً، أي يستحيل ايذاؤه أو إصابته بجرح أو ضرر، ماعدا عقب قدمه المكان الذي أمسكته به أمه، وعندما شبّ طلبت أمه من حداد الآلهة أن يصنع له درعا لا يخترقه حديد أو نار، وقد كان من نتيجة امتناع اخيليوس عن المشاركة في الحرب أن فقد أقرب أصدقائه"باتروكلوس"الذي قتل على يد هكتور البطل الاسطوري عند الطراوديين. وعندما يسمع آخيليوس بموت صديقه يثور غاضباً ويقرر العودة الى ميدان القتال، فيقتل العشرات من الجنود والقادة ويهرب الجميع منه حيث يحتمون داخل أسوار طروادة باسثناء هكتور، الذي يقتل في منازلة عنيفة أمام آخيليوس، يضعف جيش الطراوديين بعد موت هكتور، لكنهم يحتمون بأسوار مدينتهم التي تستعصي على جيش الآخيليين. وفي النهاية يبتكر أوديسوس، بإلهام من الالهة"أثينا"، خطة ذكية حيث يغادرون فجأة المعسكر ويركبون السفن للعودة الى الوطن، ويتركون في السهل حصاناً خشبياً ضخماً في داخله أقوى المحاربين. لكنهم يبحرون الى جزيرة تيندوس القريبة ويبقون هناك حتى الليل ثم يعودون. ينخدع الطرواديون فيجرون الحصان الى الداخل ويقيمون الاحتفالات الصاخبة. في آخر الليل ينزل المحاربون اليونانيون من جوف الحصان، ويقتلون الحراس ثم يفتحون أبواب طروادة لرفاقهم المنتظرين.
ينهب اليونانيون طروادة ويقتلون رجالها ويسبون نساءها. يقتلون الملك بريام ويسوقون اندروماك، زوجة هكتور، أسيرة.
أما الأوديسة فان موضوعها أكثر تنوعاً حيث يتناول فيها هوميروس عودة الملك المحارب أوديسوس من حرب طروادة الى وطنه في إثاكة. ففي بداية الملحمة نعرف أن أودسيوس مايزال غائباً رغم مرور أكثر من عشر سنوات على نهاية الحرب، ويعتقد أهالي المدينة إنه مات ولن يعود. ولهذا يسعى كبار القوم للتقرب من زوجته الملكة"بنيولي"التي لاتفقد الأمل بعودة أوديسوس، فتقرر أن تبعث بإبنها"تليماخوس"للبحث عن أبيه. في القسم الثاني نرى اوديسوس في رحلة العودة، بعد أن توسطت الالهة أثينا لدى كبير الالهة زيوس لكي ينقذه من سيطرة كاليبوس حورية البحر، وبعد رحلة مضنية يتعرض اوديسوس لغضب اله البحر بوسيدون يصل أخيراً الى جزيرة اسخيريا حيث يستضيفها ملكها، ويروي أوديسوس ما تعرض له من مخاطر وما صادفه من صعاب فيقرر ملك أسخريا مساعدته لكي يعود الى مدينة اثاكا. أما القسم الثالث والاخير من الملحمة فنجد فيه أوديسوس وقد عاد الى بلاده حيث يجد معظم النبلاء طامعين في عرشه، فيقرر التنكر في زي متسول حيث يتسلل إلى داخل القصر دون أن يعرف أحد هويته سوى زوجته وابنه. ويختتم هوميروس الملحمة بانتصار أودسيوس وعودة السلام الى بلاده.
******
في العصور القديمة كان أحدهم إذا أراد أن يصبح بطلاً في الحياة عليه أن يتعلم حفظ النصوص القديمة، وإذا ارد احد أن يتعلم نصاً عليه أن يحفظه، وقد كانت طريقة القراءة في العصور القديمة والمتوسطة مختلفة تماماً عن طريقتنا اليوم، لم يكن القارئ آنذاك يحفظ النصوص فقط، وانما يجترها، وكما يخبرنا الإيطالي "جيوفاني بوكاشيو" في إحدى رسائله إنه "أمتص أشعار هوميروس وأزرعها في ذاكرتي".
ومثلما أحاط الغموض والأساطير حياة هوميروس، فان حكاية بوكاشيو كانت مليئة بالأسرار، فهو ابن غير شرعي لبوكاشيو دي تشبلينو، أحد تجار ايطاليا، وفتاة فرنسية. ولد في باريس عام 1313، وأمضى سنوات شبابه في مدينة نابولي يعمل في تجارة والده وفي الوقت نفسه يدرس القانون. في تلك الفترة قرأ هوميروس فهام به، وحفظ أشعار فيرجيل وأوفيد. وفي نابولي وقع في حب ماريا داكوينو، وهي التي عرفها القراء فيما بعد باسم"فياميتا"والتي اصبحت الشخصية النسائية الرئيسة في عمله الكبير"الدكاميرون"حيث يصف لنا مغامراته العاطفية والجنسية معها. وبعد علاقة دامت أكثر من عشر سنوات أصيبت"ماريا"بمرض الطاعون، ويقال إن بوكاشيو تولى تمريضها بنفسه. وبعد وفاتها يقرر أن يتفرغ للادب فيذهب في رحلة لزيارة قبري هوميروس وفرجيل، حيث ينذر أمامهما نفسه للادب. وفي ذكرى وفاة محبوبته، يبدأ بكتابة أعظم كتبه"الديكاميرون"يروي فيه ذكرى الطاعون الخبيث الذي مايزال عالقاً في ذاكرته، من خلال حكاية ابطالها ثلاثة من الرجال وسبع نساء يهربون خارج مدينة فلورنسا، خوفاً من الطاعون، حيث يصلون الى مكان آمن، لكنهم لا يجدون ما يفعلون فيقضون الوقت برواية الحكايات فيما بينهم، و خلال عشرة أيام يروي كل واحد منهم عشر حكايات، ليكون مجموع الحكايات مئة حكاية، حيت يستخدم بوكاشيو فعل رواية الحكاية للهروب من خطر الطاعون الحكي درءا للخطر والموت، والرجال الثلاثة هم ثلاث وجوه لشخصية واحدة هي شخصية المؤلف بوكاشيو، والنساء السبع صور متفرقة لحبيباته وأبرزهن ماريا التي أحبها أكثر من غيرها،.
يستهل بوكاشيو كتابه الديكاميرون بإفتتاحية يخبرنا فيه عن سبب أختياره للقصص المئة التي يرويها على لسان أبطاله، ويصف كيف اجتاح وباء الطاعون مدينة فلورنسا عام 1348 فأصبحت معزولة عن العالم، وكيف اصبح الموت هو قدرها المحتوم.
في صيف عام 1987 يجلس كازو ايشيغورا الى منضدة الكتابة يقرأ في الإلياذة، ويسأل زوجته "لورنا" عن الذاكرة الضخمة التي أمتلكها هوميروس والتي مكنته من حفظ كل هذه الأبيات وترديدها في كل مناسبة. كانت فكرة الذاكرة قد شغلته منذ أن قرأ كتاب برغسون الشهير"المادة والذاكرة"والذي يؤكد فيه فيه الفيلسوف الفرنسي الشهير إن ذكرياتنا تبقى حيّة في باطن الشعور، مكتسبة في كل مرة صبغة جديدة، نتيجة لذكرى الحالات السابقة المختزنة من ذي قبل في صميم الوعي، و بذلك نجد أنفسنا دائماً بإزاء لحظة جديدة أصيلة من لحظات تاريخ حيّ متجدد لشخصية متطورة نامية"!
"يكتب ايشيغورو"في دفتر يومياته العبارة التالية التي قرأها في أحد كتب الفلسفة:"لاتنس أن تتذكر". كان آنذاك قد بلغ الثانية والثلاثين من عمره. صدرت له من قبل روايتين"منظر شاحب من التلال"، و"فنان من العالم الطليق."كان يكتب وفي نفس الوقت يقرأ ويراجع مصادر عن تاريخ بريطانيا في الفترة ما بين الحربين العالميين. أغرم بكتب المفكر الاشتراكي هارولد لاسكي، وحاول أن يحصل على ما نشر عن الحياة في الريف الانكليزي، ولمدة ستة أسابيع واصل كتابة رواية تتداخل وتتقاطع بين الذاكرة الفردية والتاريخ الوطني من خلال شخصية رئيس خدم"ستيفنس"الذي يعمل في قصر إنكليزي عريق"دارلنغتون هول"، يرى أنه خدم الإنسانية لا لشيء إلا لأنه سخر كل كفاءته وخبرته المهنية لخدمة رجل عظيم"لورد دارلنغتون".
وباستعراض تاريخه في المهنة يكتشف "ستيفنس" ما يجعله يضع كل شيء موضع المساءلة: عظمة اللورد، علاقته بالآخرين، معنى حياته التي عاشها في عزلة عن كل شيء باستثناء وظيفته، معنى الكرامة المهنية، الزمن المفقود الذي يحاول استعادته وفي الرواية نجد إن التاريخ والذاكرة عرضة للانتقاء والمراجعة بشكل دائم:"الذاكرة بالنسبة للفرد هي بالضبط كالتاريخ بالنسبة للدولة". أحداث رواية"بقايا اليوم"التي تبدأ عام 1956بقصر"دارلنغتون"الذي يستأجره رجل أعمال أميركي، نشاهد يبدأ ستفتنس"وهو يبدأ رحلته بالسيارة الجديدة-سيارةالمالك الجديد- إلى الريف الغربي، لكنه في الوقت فانه يبدأ الوقت نفسه رحلة معذبة في الذاكرة.
هنا سيكتشف ما يجعله يضع كل شيء موضع المساءلة:عظمة"اللورد"الذي خدمه بإخلاص و معنى حياته التي عاشها في عزلة عن كل شيء باستثناء وظيفته، أما فكرة الرحلة ذاتها فهي بنية ذكية اتخذها"إيشيغورو"ليقول لنا إن البطل كلما كان يبتعد عن قصر"دار لنغتون"إنما كان يقترب من فهم حياتها التي قضاها هناك.
شخصية"ستيفنس"في هذه الرواية تعكس أفكاراً وتأملات "إيشغيورو" الخاصة وعدم وضوح الرؤية لديه والتمادي في السير في الاتجاه الخطأ. شخصيته مرسومة بعناية فائقة تبرز مزايا وعيوب الطبيعة المتحفظة، فهو شخص رزين محترف يحاول أن يحافظ على النظام والانضباط ومستوى الخدمة الممتاز في قصر مخدومه، هذه الجهود كلها تفيض على حياته الشخصية وتطغى عليها مخلفة رجلاً غامض أجوف.
يكتب إيشغيورو ان الادب الذي يجب ان نقدمه للقارئ يجب ان يتخطى حدود لغتنا وذاكرتنا، وان يعبر على نحو صحيح عما حدث في اصغر حدث في حياتنا. وعلينا ان ندرك ان الحصول على اقرب نسخة صادقة من الواقع ممكن في القصص التي تشبه ما كتبه قبل اكثر من الفين عام رجل رحالة اطلقوا عليه اسم هوميروس".