جرت حتى الآن 7 عمليّات انتخابيّة اتحاديّة بعد 2003 ، والثامنة حاصلة في حدود شهرين ونصف الشهر، فضلاً عن انتخابات إقليم كردستان .. كلّها تمّت من دون بيانات دقيقة خاصة بالتعداد العام للسكان.
ويرجع تاريخ آخر تعداد سكاني في العراق إلى 21 سنة، وحتى ذلك الإحصاء الذي نُظّم في عهد النظام السابق لم يكن دقيقاً ايضاً، بحسب المعايير الدولية، إذ جرى في ظل غياب 3 محافظات هي أربيل والسليمانية ودهوك التي تشكل منها لاحقاً الإقليم، وظهرت نتائجه بعد عدة سنوات.
في ضوء ذلك يمكن اعتبار الإحصاء الذي أجري قبل 31 عاماً، وتحديداً في فترة الحرب العراقية - الإيرانية، هو الإحصاء الرسمي الأخير. لكنه بعيد جداً وبياناته لا يمكن التعويل عليها، والمتعارف عليه عالمياً أن تُجري الدول تعداداً لسكانها مرة كل 10 سنوات.
ويهدف التعداد بشكل عام، إلى وضع تصور كامل عن حجم السكان والمنازل والمصانع وكل ما يوجد على الارض من بشر وشجر وحجر.
وعلى وفق بيانات التعداد السكاني تبني الحكومة خطط التنمية وتوافر الخدمات الصحية والبلدية وغيرها، كما تعرف الحاجة الأساسية لحجم القوات المسلحة وعدد الموظفين والعاطلين عن العمل والأميين.
ويشكّل الإحصاء السكاني حجر الزاوية في عملية الانتخابات والاستفتاءات. وفي العراق تحيط بهذا الإجراء أجواء من الشك. وحاولت 3 وزارات تخطيط متعاقبة منذ 2004، تنفيذ المشروع إلا أنها اصطدمت بعقبة السياسة والخوف من كشف حجم الموزنات القومية والدينية في البلاد.
وأصبح التعداد السكاني قاب قوسين أو أدنى من التنفيذ في العام 2010 ، قبل أن تطلّ برأسها مشكلة المناطق المتنازع عليها لتؤجل إجراء التعداد الى إشعار آخر.
وكانت وزارة التخطيط قد عجزت قبل ذلك الوقت عن إقناع الحكومة والقوى السياسية بتنفيذ الإحصاء في العام 2007، بعد 10 سنوات على الإحصاء القديم، بسبب الاوضاع الامنية التي كانت سائدة في ذلك الوقت.
كما عطّل بعد ذلك ظهور داعش أيّ رغبة في إجراء إحصاء جديد بعد المحاولة الاخيرة في 2010 التي قطعت أشواطاً بعيدة في التحضيرات. وتمكنت الوزراة خلال التجربة الاخيرة التي لم تكتمل من تنفيذ إجراء أولي تمهيداً ليوم التعداد تضمن عمليات حصر للمنازل ومن يعيش داخلها في عموم البلاد، وهو ما وفّر لها بعض المعطيات عن حجم السكان في العراق.وبدأت "الوزارة عقب ذلك بالاعتماد على الارقام التي ظهرت لديها لإعطاء تصور عن حجم السكان والزيادة السنوية في نفوس العراقيين.
وتعتمد مفوضية الانتخابات على تلك النسب التي تظهرها الوزارة كل عام، بالاضافة الى وثائق البطاقة التموينية، التي توفر قاعدة بيانات رسمية ، إلا أنها تتحمل نسبة خطأ ليست قليلة.
ويترتب على ضوء تلك الارقام تحديد عدد الناخبين في البلاد، بالاضافة الى حصة كل محافظة من عدد المقاعد في مجلس النواب والمحافظات وتحديد "الكوتا" للأقليات.
وتأمل وزارة التخطيط أن تتمكن من إجراء التعداد بعد عامين من الآن، حيث بدأت بمحاولات للتمهيد للمشروع، إلا أن القوى السياسية ما زالت متخوفة من أن يترتب على الامر تغيير ديموغرافي.
وتطالب بعض الجهات السياسية، الحكومة بإعطاء ضمانات مقابل إجراء التعداد السكاني، فيما تجد بعض المكونات أنها تعرضت للغبن بسبب عدم وجود إحصاء دقيق.
وعلى وفق الدستور، فإن كل 100 ألف نسمة، يمثلهم نائب واحد في البرلمان، فيما جرت تغييرات على مستوى المحافظات، إذ خفضت أعداد ممثلي المجالس المحلية الى النصف، بزيادة واحد على كل 200 ألف بعد المليون نسمة.
ووفقاً للزيادة السكانية السنوية، فإنه بعد 20 عاماً سيتضاعف عدد أعضاء البرلمان، وهو أمر دفع بعض القوى السياسية لاقتراح تغيير النسبة الى رقم ثابت يعتمد على عدد الناخبين بدلاً من عدد النفوس.
لماذا لم يُجرَ الأحصاء؟
يقول عبد الزهرة الهنداوي، المتحدث الرسمي باسم وزارة التخطيط، في حديث مع (المدى) إن "السياسة هي من عرقلت إجراء التعداد لأكثر من مرة"، كما يؤكد أن الوزارة كانت مستعدة لذلك في عامي 2007 و2010، لكنّ أحداثاً أمنية وسياسية عرقلت التنفيذ.
وفي عهد النظام السابق، أُعلن حظر تجوال عام 1997 من أجل إجراء التعداد، وهو آخر إحصاء شهدته البلاد قبل التغيير السياسي في عام 2003.
ويعتبر الهنداوي إحصاء 1997 غير دقيق ،لأنه "جرى في ظل انفصال كردستان، حيث لم تشمل 3 محافظات في التعداد"، فيما يشير الى أن "نتائج التعداد ظهرت بعد 4 سنوات من إجرائه" لأسباب تتعلق بالطبيعة الأمنية لنظام صدام.
وعلى وفق ما تقوله وزارة التخطيط، فإن إجراء التعداد في مثل تلك الظروف لا يمكن اعتباره إحصاءً رسمياً ،لأنه خالف المعايير الدولية المتبعة في التعداد، بأن يكون شمولياً وأن تظهر نتائجه في وقت قصير.
ويدفعنا ذلك للعودة الى التعداد الذي سبقه في 1987، حيث يعتبر هو الإحصاء الرسمي الاخير في البلاد. وفي كل الاحوال لا يمكن الاعتماد على الإحصائين الأخيرين، لأن في العقود الثلاثة الاخيرة جرت في البلاد تغييرات كبيرة.
وأُجري تعداد 1987 في 16 تشرين الاول وشمل جميع محافظات العراق ما عدا (المناطق الحدودية مع إيران) حيث تعذر جمع المعلومات فيها بسبب الحرب العراقية الإيرانية. وبلغ عدد سكان العراق يومذاك 16 مليوناً و٣٣٥ ألفاً و١99 نسمة.
في المقابل أظهر تعداد 1997 عدد نفوس 15 محافظة 19 مليوناً و١8٤ألفاً و٥٤٣ نسمة.
وبعد عام 2004، بدأت وزارة التخطيط تفكر بإجراء تعداد سكاني جديد، وكان من المفترض ان يحدث ذلك في 2007، بعد مرور 10 سنوات على التعداد الاخير، لكنه لم يحدث.
ويؤكد الهنداوي انه في ذلك العام "كان الوضع الأمني سيئاً للغاية، والتعداد لم ير النور". وكانت "القاعدة" والتنظيمات المتطرفة تسيطر على بعض المناطق، ودخلت البلاد فترة من الاقتتال الطائفي، لم تهدأ حتى عام 2009. وفسحت فترة الامن النسبي، المجال مرة أخرى أمام وزارة التخطيط لتعيد طرح مشروع التعداد. وفي 2009 قررت الحكومة إطلاق الإحصاء الذي كان مقرراً إجراؤه في 22 حزيران 2010، أي بعد شهرين من التجربة الانتخابية الرابعة التي مرت آنذاك من دون إحصاء، فضلا عن استفتاء الدستور الذي جرى في 2005.
وأمضت وزارة التخطيط عامين في التحضير لإحصاء 2010. ويقول الهنداوي: "دربنا 650 ألف موظف ليوم العد، كما طبعنا 15 مليون استمارة". كما هيأت الوزارة أجهزة متطورة لقراءة الارقام إلكترونياً لتجنب الخطأ والتزوير ولخروج النتائج بوقت قصير.
في ذلك الوقت بدأ صوت الجهات المعارضة للتعداد يعلو، والجدل يزداد حول مشكلة لاحت في الافق بشأن المناطق المتنازع عليها.
قبل عام من يوم التعداد
وقبل عام من يوم التعداد، نفذت وزارة التخطيط عملية تعدها مهمة، إذ قامت بعملية تسمى "الحصر والترقيم"، وهو إجراء أولي يسبق يوم التعداد لمعرفة عدد الدور والمباني في البلاد وترقيمها وعدد الأفراد الذين يسكنون أو يعملون داخلها.
ووفر ذلك الإجراء بعد وقف تعداد 2010 لأسباب سياسية إحصائية للوزارة اعتمدت عليها بعد ذلك في كل التخمينات التي نشرتها في الاعوام الماضية، حتى الاخيرة في نهاية 2017.
أظهر "الترقيم" حينذاك عدد سكان العراق 31 مليوناً و600 ألف نسمة، ولكنه أيضاً لم يكن قد جرى في ظل أوضاع طبيعية، فقد اعترضت بعض القوى السياسية في نينوى، متخوفة من مشكلة "التغيير الديمغرافي".
ووصف وزير التخطيط والتعاون الإنمائي آنذاك، علي بابان، الجهات السياسية المعارضة لعملية الترقيم والحصر في محافظة نينوى بأنها "متخلفة فكرياً".وقال بابان في تشرين الاول 2009، إن عمليات الحصر والترقيم "نجحت في جميع محافظات البلاد باستثناء محافظة نينوى". واتهم بابان "جهات سياسية" لم يسمها في محافظة نينوى بأنها "حاولت تخويف الأهالي من هذه العملية بحجة أن لها أبعاداً سياسية وأمنية".
بعد الانتهاء من "الترقيم" أصبحت الوزارة مهيأة ليوم العد، الذي كان من المفترض إجراؤه في يوم واحد ويشمل كل مناطق البلاد، على وفق تعليمات الأمم المتحدة التي كانت مشرفة على العمل.
وفي ذلك الوقت زادت الاعتراضات، خصوصا من بعض الاقليات في كركوك والمناطق المتنازع عليها الاخرى، خوفاً من التلاعب في الارقام لحسابات سياسية مستقبلية.
ويقول المتحدث باسم وزارة التخطيط إنه في ذلك الوقت "بدأت بعض أطرف سياسية بتخويف السكان من أن التعداد سيؤدي الى إظهار أعداد مكونات أعلى من الاخرى، خاصة في المناطق المتنازع عليها للاستحواذ عليها من الجهات التي كانت قابضة على السلطة في ذلك الحين".
وفي صيف 2009، طالب عدد من اعضاء مجلس النواب بتأجيل عملية التعداد محذرين من انها قد تدفع البلاد الى حرب أهلية. وقال النائب عن نينوى وقتذاك أسامة النجيفي في بيان قرأه امام صحفيين في بغداد ووقعه عدد من النواب من محافظتي نينوى وكركوك من العرب والتركمان والشبك: "نطلب من الحكومة والبرلمان والقوى الوطنية كافة التعاون لتأجيل الإحصاء السكاني الى وقت يتفق عليه في البرلمان القادم الذي سينتخب في عام 2010 ".كما أظهر بعض النواب العرب والتركمان في كركوك وقتذاك، خشية من أن يحقق الكرد أغلبية في المدينة، ما يفتح الباب امامهم لضم المدينة الغنية بالنفط الى إقليم كردستان.
وأفاد النواب العرب والتركمان حينها، بأن أعداد الكرد في كركوك ازدادت بعد اجتياح العراق في آذار 2003 بسبب استقدامهم الى المحافظة.
في المقابل كان الكرد يقولون إنهم "يشكلون الأغلبية في محافظة كركوك التي طردوا ورحلوا منها خلال حملة التعريب التي نفذت إبان حكم صدام حسين".
في ذلك الوقت ايضا قالت بعثة الامم المتحدة في العراق (يونامي) التي كانت شريكة في تحضيرات التعداد، إن الإحصاء يمكن أن يصبح مصدراً للتوتر في العراق.
إلى إشعار آخر!
في نهاية 2010، قررت الحكومة تأجيل إجراء التعداد الى إشعار آخر. كما فشلت طلبات إجرائه بعد استثناء المناطق المتنازع عليها ورفع حقل "القومية" من استمارة الإحصاء، التي طالبت بها بعض المكونات.
وجرت بعد ذلك انتخابات محلية في 2013، وتشريعية في 2014، اعتماداً على تخمينات وزارة التخطيط وارقام وزارة التجارة التي جمعتها من البطاقة التموينة.
بدورها تقول زيتون الدليمي، عضو اللجنة الاقتصادية في البرلمان لـ(المدى)، ان "نسبة دقة هذه الارقام بلغت 70%".
واعتبرت الدليمي، وهي عضو قائمة الوطنية التي يتزعمها إياد علاوي ان "الفوضى في الإدارة والسياسة هي من تعرقل إجراء تعداد سكاني في البلاد".وكان أعضاء سابقون في مفوضية الانتخابات، قد اعتبروا أن من مساوئ الديمقراطية في العراق، هي أن "الانتخابات تجري من دون إحصاء دقيق للسكان".
من ناحيتها، تقول وزارة التخطيط، إن التقديرات التي تصدر بعد عام 2009، كلها معتمدة على عمليات "الترقيم والحصر" التي جرت في ذلك الوقت.
وتأخذ الوزارة، بحسب ما قاله الهنداوي، في حسبانها معدلات الوفيات والولادات، وصافي الهجرة، بالاضافة الى معدل الزيادة السنوية في السكان. وبحسب تلك المعادلة المعتمدة على الأرقام فقد ظهرت زيادة سكانية بمعدل 850 الى مليون نسمة سنوياً.
من جهته يقول عادل اللامي، رئيس مفوضية الانتخابات الأسبق، في حديث لـ(المدى) إن "التقديرات السكانية على نتائج الانتخابات قريبة من الناحية السياسية، لكنها غير دقيقة من الجانب الفني".
ويؤكد اللامي ان "التخطيط تؤكد حدوث زيادة سكانية بنسبة 3% كل عام اعتماداً على الارقام التي ظهرت في عملية الترقيم والحصر الاخيرة، وهي أرقام قريبة من الواقع". لكن رغم ذلك، يطالب اللامي بإجراء التعداد لتفادي الوقوع في الأخطاء.
وأشارت التقديرات السكانية الاخيرة التي صدرت عن وزارة التخطيط أواخر العام الماضي إلى أن هناك أكثر من 37 مليون نسمة يعيشون في العراق.
خشية الأقلّيات
في غضون ذلك ترى بعض المكونات أن عدم وجود تعداد سكاني، قد تسبب في تقليل حجمها السياسي وعدد ممثليها في مجلس النواب.
ويقول خالص إيشوع، وهو نائب سابق في البرلمان، لـ(المدى) ان "مقاعد المكون المسيحي في المجلس 5 فقط، لكنّ استحقاقنا الحقيقي هو 4 أضعاف هذا الرقم".
ويرى إيشوع وهو عضو المجلس الشعبي الكلداني السرياني، أن أعداد المسيحيين على وفق تلك النسبة من المقاعد تعني أنهم 500 ألف، لكنه يقول: "لم يؤخذ بنظر الاعتبار المسيحيون في خارج العراق الذين يشاركون في الانتخابات أيضاً".
ويقدّر النائب السابق أعداد المسيحيين في الداخل والخارج بنحو مليوني نسمة، لذلك يؤكد أن "مقاعدنا في البرلمان يجب ان ترتفع إلى 20".
كما يعتقد إيشوع أن "عدم إجراء التعداد السكاني طوال تلك السنوات، يبدو أن وراءه محاولة لإضعاف الدور السياسي والاجتماعي للمكونات والاقليات في العراق".
وكان ممثلو المكون الإيزيدي أقروا مؤخرا بفشل مساعيهم لزيادة عدد مقاعدهم الى 6 بدلاً من مقعد واحد، على وفق الزيادة السكانية.
وأعلنت المحكمة الاتحادية الشهر الماضي، عن وجوب تساوي عدد مقاعد الإيزيديين والصابئة مع عدد نفوسهم، إلا أنها لم تتطرق الى ذكر عدد المقاعد.
من جهته يقول النائب حسن توران، عضو اللجنة القانونية في البرلمان لـ(المدى) ان "عدم وجود إحصاء سكاني هو حجة بعض القوى السياسية للتذرع بعدم زيادة أعداد أعضاء البرلمان".
ووفقاً للتقديرات السكانية التي تصدرها وزارة التخطيط، يجب زيادة عدد أعضاء البرلمان من 329 إلى 376.
ويضيف توران قائلا: "الزيادة السكانية ستسبب لنا مشاكل كثيرة وسيصل عدد أعضاء البرلمان في 2040 الى 600 نائب"، لذا يطالب النائب بوضع عدد ثابت من الناخبين يمثلهم نائب واحد، بدلا من اعتماد نسبة السكان المعمول بها حالياً.
وينص الدستور في المادة 49/ أولاً "يتكون مجلس النواب من عدد من الأعضاء بنسبة مقعد واحد لكل مئة ألف نسمة من نفوس العراق".
وحتى اللحظة ما زالت مخاوف بعض القوى السياسية والمكونات قائمة من التعداد، إذ يقول توران وهو تركماني وممثل عن محافظة كركوك في البرلمان: "لو أردنا إجراء إحصاء فعلى الحكومة ان تقدم ضمانات بعدم حصول تغيير ديمغرافي".
ويعتقد النائب التركماني أن "الارقام في البطاقة التموينية وتقديرات وزارة التخطيط قريبة من الواقع". وما زالت وزارة التخطيط، تأمل إجراء تعداد سكاني جديد، حيث قضى دخول داعش وأعداد النازحين والازمة الاقتصادية على آمال سابقة في إجرائه خلال السنوات التي أعقبت 2010.
ويقول الهنداوي "نعمل الآن لإجراء إحصاء سكاني جديد في 2020. ونأمل أن يشهد ذلك العام استقراراً سياسياً وأمنياً".