د. نجم عبدالله
( 1 )
الغموض Ambiguity موضوع قديم، ولكنه متجدد في الطرح، ودليلي على ذلك طريف، وهو أن أول مقال ننشرته في حياتي، وأنا طالب جامعي في العشرين من عمري، كان عن الغموض وتحديداً في الشعر العربي الحديث، وكان ذلك عام 1972. تساءلت في مقالي حينها: إذا لم أكن أنا المثقف بشكل معقول أفهم من بعض ما يكتب شعراً اليوم، فلمن يُكتب هذا الشعر إذن؟ لأكتشف، بعد أكثر من عشر سنوات كم كنت ساذجاً في تساؤلي، وقد كنت أريد أن يقول لي الشعر ما يقوله الكلام، والشعر غير الكلام، والأهم كم كنت أسيئ قراءته تماماً كما يُخطئ من يستمع للسيمفونية استماعه للإهزوجة مثلاً.
إذن لنقل هو موضوع قديم حديث. والغموض عندي يتعلق أصلاً بالأدب وإلى حد ما الفن عموماً؛ ولكن هناك غموض يتعلق بالجنس الأدبي أو الفني، ولاسيما الشعر الحديث، وإلى حد ما القصة القصيرة جداً؛ وغموض يتعلق بنوعٍ أو اتجاه معين أو نزعة معينة: مثل قصص وروايات اللامعقول؛ وغموض يتعلق بكتابات كاتب، وربما عمل فرد له، مثل "القضية" لكافكا. وقد يُعدّ الغموض، في كل ذلك، سمة من سمات أدب التجريب، هو في الحقيقة قد يكون فيه منتَجاً مقصوداً أو منتجاً عارضاً، خصوصاً قبل أن يستوي الأمر لأديب التجريب. وفي العودة إلى الأدب عموماً، نعتقد أن أول غموض هو اللامباشرة في الأدب أو الفن. وهو هنا قد لا يكون بالضرورة غموضاً تماماً، بل أول الممهدات له. وربما لا نحتاج لبيان لماذا يجب أن يكون الأدب أو الفن عموماً غير مباشر، فهو الأجمل والأكثر وقعاً على المتلقي، ولهذا ترى الأمر ينسحب حتى إلى الأمثال، بل الأمثال الشعبية التي يحتاج أصحابها إلى أن يكون كلامهم مؤثّراً في المتلقي وأقوى وقعاً عليه. ولذا فالغموض كان موجوداً، وإن بأشكال ومستويات معينة، في الأدب العربي القديم، كما في بعض الشعر، وفي أعمال مثل "كليلة ودمنة"، لكنه كان أقرب إلى الوضوح منه إلى عدم الوضوح كما قد نراه في الأدب الحديث، وتحديداً الشعر. ولذا لم يكن غريباً، كما قد يرى البعض، أن المتنبي حين كان يُسأل عما يقصده بهذا القول أو البيت أو ذاك، كان يجيب: اسألوا ابن جني.
( 2 )
ولكننا بالطبع حين نتكلم عن الغموض، فإننا لا نعني هذا، بل غالباً ما نعني غموض الشعر الحديث، وإلى حد ما القصة القصيرة جداً، وبعض أنواع ونزعات الكتابات الأخرى، كما أشرنا. أما مبررات هذا الغموض، ولاسيما في الشعر الحديث، فلعل أكثرها طرحاً في التداول والجدل وإقناعاً، هو ما سمّاه البعض الحدّة الشعرية أو كثافة الطاقة الشعرية التي تُسهم في أن يكون الشعر قابلاً للقراءات المتعددة( ). إن الغموض الشعري في الأصل كامن في المدلولات التي تصدر عن أعماق تجربة انفعالية لم تتبلور بوضوح للشاعر نفسه، ولهذا لا نجد غريباً أن يجيب البياتي مرةً على سؤال عما يريده من قصيدة أو مقطع شعري له، بأنه لا يدري أو لا يعرف، ويجيب شاعر آخر بأنه لو كان يعرف ما يريد لما قال شعراً. وعلى أية حال، ومهما نُظّر للغموض في الشعر خصوصاً، وغالباً ما يكون أصحاب التنظير في ذلك محقّين، وهم ينطلقون من الشعر ذاته، وربما الشاعر، فإني أجد المبرر الأول أبسط من كل ذلك، وهو أن الأدب عموماً والشعر خصوصاً، وهنا نعود جزئياً إلى اللامباشرة، يكون بالغموض أجمل وأكثر بعثاً للذة التي تتوق لها أنفسنا حين نقرأ نصّاً أو نسمعه. إن الغموض يشدّك إلى حوار مع النص حين يشحذ عقلك ويثيرك ويستفزّ وجدانك وأحاسيسك حتى تتلاقى معه في فضاء لا اتفاقَ أو تسليمَ بالضرورة على أمر محدد فيه بل هو فضاء من الممكنات والرؤى وحتى المواقف التي تجد تواؤماً بينك وبين بعضها؛ وهو بذلك يثري النص الإبداعي، ويعدّد دلالاته من جهة، ويتيح تعدداً في قراءاته من جهة أخرى، مما يخلق نوعاً من اللذة الحسية والمتعة الذهنية التي كثيراً ما تخفت وقد تتتلاشى في (الشعر) الذي لا يفعل ذلك، كما أنه يخلق نوعاً من التواصل والألفة بين النص ومتلقّيه، وهو ما يجعله يشعر بأنه في حاجة دائمة إليه. وقد يذهب البعض إلى أن "الفن عند السيكولوجيين مثير للحلم يفتح أمام العقل طرقاً ملأى بالوعود فيسير فيها مبهوتاً، ومن هنا يستحسن الغموض في الفن لأنه أشد إثارة للحلم".
ومن المهم الانتباه إلى أن هناك خلطاً ما بين الغموض والإبهام، بينما هناك فرق بينهما. الأول يدخلك في عالم خاص من الأحاسيس والعوالم التي تثيرك وتستفزك لتصل إلى شيء، غالباً ما ستشارك في صناعته، وهو بهذا، وبعكس ما قد يُفهم من البعض، يفتح للمتلقي طرقاً وميادين عبر التأثير فيه ودفعه إلى التفكير المقرون بالأحاسيس وإلى الحوار ما بينه وبين النص وصولاً إلى المشاركة الإيجابية في تكوين المعنى. إن الغموض، يهيّئ النص أصلاً لتعددية المعنى، ويبقى كل ما يصل إليه المتلقي قارئاً أو ناقداً لهذا النص مقبولاً، سواء أكان مقنعاً لنا أم لم يكن، ما دام لا يُحمّل النص ما لا يحتمل، ولن يكون في ذلك من صح أو خطأ وهو في كل ذلك ينطلق من وعي. أما الإبهام، فهو تيه وربما صناعة من صاحبه أسلوباً وتعبيراً لأغراض ليست لها علاقة بالأحاسيس والإبداع، ولهذا هو، وليس الغموض، غالباً ما يقود إلى اللبس، وهذا ما يحدث عادةً إذا ما دخل في النصوص غير الإبداعية، دراسية وعلمية ونقدية مطلوب منها أن تقدم معنىً بعينه، فيمنع اللبس من إيصاله، أو على الأقل يؤدي إلى أن يُشكل على المتلقي فهمه. ولكن قد يدخل نوع من الإبهام والتعمية في بعض أنواع الكتابة والإبداع بقصدية، كما في القصص البوليسية مثلاً ويكون مقبولاً، أو بلا قصدية كما في غيرها، ولن يكون هناك، برأيي، مقبولاً غالباً، لأنه يُلغي مسافات التفاعل بين النص والواقع من حوله ومن حول المتلقي، وبين الشاعر والمتلقّي، ليظل باباً موصداً لا ينفتح إلا على الخواء الناتج عن تعقيد الدَّوال في حدّ ذاتها.
( 3)
بقي أن الكثير من كلامنا لا يقتصر على الشعر، ولا حتى على الأدب عموماً، بل يمتد إلى الفنون كاملةً وإنْ بدرجات مختلفة من فن إلى آخر، كما في تكعيبية بيكاسو، وسريالية دالي، وحداثوية أدونيس، ولا معقولية كافكا، وعبثية كامو، وأصوات زكريا تامر الداخلية ذلك. أتذكر أنني حين وقفت مرةً أمام لوحة (غارنيكا) في مقر مجلس الأمن.. لم أكد بدايةً أتلقّى شيئاً منها، واصلت الوقوف أمامها، وأنا أتواصل- وهذا برأيي مهم- مع كلية العمل من جهة ومع جزئياته من جهة أخرى، لتبدأ أحاسيس مختلطة تتسلل إليّ يصاحبها شيء ما يُمسك بي، لينفرز من ذلك تحديداً إحساس بالألم والمأساة، وفجأة بدأت تصل ليّ مجموعة (رسائل) على حد تعبير الرؤية النقدية القديمة لرسالية الأدب والنص الأدبي، ولا أقول بخطئها، وعندها تمثّلتْ لي مجموعة معانٍ لا أقول تُقدّمها اللوحة، بل هي تَنتج من التفاعل المتحقق ما بيني متلقياً والنص لوحةً. هنا يبرز الفرق ما بين النص الأدبي الذي يقدم رسالة واضحةً مباشَرة كما حال الأدب والفن التقليديين وضمنهما بشكل خاص الشعر التقليدي، والرسالة التي تلقيتها من لوحة بيكاسو، وكما يمكن أن أتلقاها من قصيدة أدونيس أو البياتي، ومن تاسعة بتهوفن السيمفونية، ومن قصص كافكا ورواياته، ومن قصص زكريا تامر القصيرة جداً ومن كونشرتو البصير رودريكو (دي إرنخويث) المتغزّلة بمدينته. فالأولى تصل وينطفئ تأثيرها غالباً، لأنها تبقى هي هي متى ما رجعتَ إلى مصدرها، شعراً أو قصة أو لوحة أو قطعة موسيقية، بينما تتواصل الثانية في تفاعلها في داخلك، وتتجدد، بل قد تتغير، كلما عاودتَ الرجوع إليها، لتتواصل لذة التلقي وتكوّن المعنى أو المعاني. باعتقادي إن أحد أهم ما يحقق هذا، وليس هو فقط، هو الغموض. وهكذا لم يعد ينطبق على الأدب الحديث، ولاسيما الشعر الحديث العربي، المقياس القديم حين كانت "تنبع طلاوة الشعر عند العرب بما قُصد إليه من قول موزون ومقفّى، وما سواه فلا رونق له، وهو يفتقر للعذوبة، ويعوزه الحُسن، إنما هو قول أعمى نُزع منه ما يبصر به، وما عاد محلّ تقدير واهتمام، فتعذّرت استضافته، وامتنع الاعتراف به."