ثائر صالح

يختصر العنوان كل القصة. فقد ذكرت غير مرة أن التأليف الموسيقي هو مهنة ذكورية، بطرياركية، مهنة احتكرها الرجال على مر القرون مع استثناءات بالطبع. كانت هناك موسيقيات ومؤلفات بارعات ناضلن بكل طاقتهن حتى يحصلن على الاعتراف الذي يستحقنه من مجتمع الموسيقيين الذكوري. نجح العديد منهن في ذلك، مثل كلارا (فيك) شومان عازفة البيانو البارعة والمؤلفة الماهرة، أو فانّي (مندلسون) هنسل أو أثل سميث أو أيمي بيتش واخريات. لكن ماذا عن مؤلفة امرأة، وفوق ذلك سمراء اللون من اصول أفريقية، وبالذات في الولايات المتحدة الأمريكية في النصف الأول من القرن العشرين؟ بالتأكيد سيكون التمييز ضدها لا يحتمل. هذه هي الظروف التي ناضلت وسطها فلورنس بياتريس سميث برايس (1887 – 1953) لتثبت أنها مؤلف موسيقية تستحق الاهتمام وحتى تعترف بفنها الأوساط الموسيقية والنقاد والجمهور، ونجحت في مسعاها أيما نجاح. لكن الامور تعود لمجاريها بسرعة، إذ جرى تناسيها واهمال أعمالها بعد وفاتها، حتى إعادة اكتشافها في العقد الأخير.
ولدت فلورنس بياتريس سميث في لتل روك بولاية اركنساس، حيث عاش الرئيس الأمريكي الأسبق كلنتون. أبوها طبيب أسنان ناجح وكانت امها مدرسة بيانو ومعلمة في المدرسة هناك، ومنها تعلمت الموسيقى. درست في المدرسة المحلية حيث عزفت اولى أعمالها، ثم درست في كونسرفاتوار نيو انغلاند في بوسطن وتخرجت منه في 1907 بتفوق كبير، وكان ذلك بحد ذاته انجازاً كبيراً إذ لم تسمح مثل هذه المؤسسات الموسيقية الراقية بدراسة "الملونين" فيها، وكان كونسرفاتوار بوسطن استثناءا بينها.
بعد تخرجها عادت الى اركنساس وعملت في التعليم في عدة مؤسسات مرموقة وبنجاح، في 1910 أصبحت رئيسة قسم الموسيقى في جامعة كلارك اتلاتنا في ولاية جورجيا. مع ذلك رفضت جمعية مدرسي الموسيقى في ولاية اركنساس قبولها لاعتبارات عنصرية بحتة. وساءت الأمور أكثر في عشرينات القرن، فانتقلت الى شيكاغو في1927 مع زوجها وابنتيها حيث استمرت في التدريس والتأليف. لكن زوجها طلقها في 1931، فتوجهت للتأليف. سرعان ما حصلت على عدد من الجوائز في المسابقات الموسيقية التي دخلتها، منها على سوناتا للبيانو وكذلك على عملها الكبير سيمفونية في مي الصغير التي عزفتها فرقة شيكاغو السيمفونية الشهيرة سنة 1933. بهذا أصبحت برايس أول امرأة سوداء تقدم أعمالها من قبل واحدة من أشهر الأوركسترات في الولايات المتحدة.
ألفت برايس أكثر من 300 عمل، من الأعمال السيمفونية والكونشرتات حتى موسيقى الحجرة ولديها مجموعة كبيرة من الأغاني، على الخصوص الأغاني الدينية التي ألفتها أو أعادت توزيعها، فانتشر أداء أعمالها في الكنائس الأمريكية السوداء، فقد وصل الفصل العنصري في أمريكت حتى مستوى الإيمان والدين.
تتميز موسيقاها بالملامح الأوروبية للرومانتيكية المتأخرة، وتأثرت بموسيقى دفورجاك وتشايكوفسكي. لكنها في الوقت نفس تزخر بالالحان الشعبية الأمريكية ومختلف ملامح موسيقى السود، فقد وظفت موسيقاهم وإيقاع رقصاتهم في أعمالها. التآلف الموسيقى الذي تستعمله متميز، ولديها قدرة عالية على التوزيع الاوركسترالي الجميل.
قلت أن إعادة اكتشاف موسيقاها بدأت في العقد الأخير، إذ عثر زوجان على أكداس من المخطوطات الموسيقية أثناء تجديد بيت خرب في إيلينوي سنة 2009. كان هذا البيت هو البيت الصيفي لبرايس، حيث عثر الزوجان على عدد كبير من الأعمال التي فقدت منذ وفاة الموسيقية في 1953. ويجري الآن تقديم هذه الأعمال بدعم من جامعة اركنساس، بينها كونشرتات الكمان رقم 1 و2.
ستقدم اذاعة بي بي سي 3 البريطانية بعض أعمال برايس في برنامجها الخاص ليوم المرأة العالمي يوم الخميس القادم، إلى جانب أعمال مؤلفات موسيقييات اخريات يجري تناسيهن وطمس أعمالهن عن عمد.