TOP

جريدة المدى > عام > المستقبل سيعلمنا التواضع

المستقبل سيعلمنا التواضع

نشر في: 3 مارس, 2018: 06:25 م

ياسين طه حافظ

اعتدتُ على ألاّ أعزل أمراً عما حوله من أمور. هو ينبثق منها أو هي تحيط به وتؤثر فيه. فللشمس أثرها في اتجاه الاشجار كما أثرها في الخرائط المنزلية والمعمار. والريح لها فعل آخر كما إن لوجود الأنهار أثر في جماليات واشكال المدن. بعد هذه، وليس آخرها، نعلم جميعاً إن الجغرافية توجه التاريخ !

ومثل هذه العلائق الخفية وراء الآداب والفنون وتخلف أو تطوّر المجتمعات وأفكارها والتفاليد. السكن في الصحراء أوجد خياماً وبيوتاً من طين حتى فاض النفط الى أعلى، أي حتى جاءت احتياجات جديدة للعاملين هناك وحتى بدأ التبريد والتدفئة الصناعيين وتيسر الماء العذب فكثرت في مناطق من الصحارى البيوت- بل أحياناً - وأمكنة منها ظهر الزرع واجتُلِب النخيل من بلدان مجاورة لزرعه، كما الحال في قطر وكما الحال في صحارى القارات إذ ترعرع زرع مغترب وجد مكاناً ليعيش ويتكاثر.
من هنا، أجد عبثاً استنكار المحافظين للاساليب الجديدة، سواءٌ في بناء المساكن أو الزراعة أو في الكتابات الادبية والفنون. الزمن يستجيب والناس فيه تستجيب كي لا يكونوا خارجه. الجماعات التي تتجدد ظروفها تتجدد أيضاً مطالبها المادية وغير المادية.
وكما يحصل للفنون والآداب، يحصل للتربية والمناهج وطرائق التدريس. فيكونون طبيعياً تحول وتطور التعليم الانساني، زراعة وصناعة، كما أساليب الري واطفاء الحرائق. المجتمعات تتحرك بكل أحتياجاتها وما لا يلحق بها يظل العمل لتحقيقه.
استنتاجاً مما يجري في موضوعات الحياة المختلفة، يصبح غير حكيم القول بتضاؤل الفنون والآداب في المستقبل. ما سيتم هو تحولات في الأساليب والموضوعات ومديات التركيز على مسائل جديدة أكثر حضوراً وخطورةً في حياة الانسان المادية والروحية. مرجَّح أن تزداد الحاجة للغذاء الروحي وسيكون مسألةً لازمة.
من هذه أن تحسن الطب والصناعة الدوائية وتناقص نسبة الوفيات أديا الى ازدياد الحاجة للغذاء. من هنا انبثقت وتطورت بسرعة حركة تحسين الصفات الجنينية لبعض المواد الغذائية (الحبوب و الثمار و الخضروات) وحتى صار البحث عن بدائل صناعية عنها مادامت لا تسد الحاجة. العالم اليوم لا يستطيع أن يطعم ملايينه المتزايدة باساليب الاربعينيات الزراعية وبفلاحة تلك السنين. لابد من ثورة زراعية. مقابل هذا لابد من تحولات ثورية في الآداب والفنون وفي السياق نفسه.
لننظر الى الحياة متكاملةً. تفاصيل الشؤون الادبية وتخصصات المعنيين لا تحول دون التفكير بالمحيط الانساني متكاملاً. شاعر اليوم يحتاج الى ثقافة أخرى. كذلك هو الكاتب والفنان الجميع يحتاجون الى توسع وتنوع في الموضوعات الثقافية لأننا لا نستطيع في عصر مثل عصرنا أن نقول: هذه حدود ثقافتك يا شاعر وهذه حدود ثقافتك يا ناقد ويا فنان و يا مخرج أفلام. الإحاطة بما في العالم مع تشابك الحياة وزيادة الكشوفات والمدى الشاسع والمتنوع الذي تتحرك فيه الناس سيكون له أثر في موضوعات الكتابة والفن وسنرى كتابات بخصائص أخرى. كما سنرى أساليب جديدة لفنون الكتابة وعن هموم مصيرية أكثر تعقيداً وجرائم أكثر تعقيداً أيضاً. حتى وسائل النشر ستختلف وقد اتضحت البدايات.
اعتقد بأن أي دراسة علمية لمستقبل الثقافة لا ينهض بها فرد ولكن فريق من الباحثين بتخصصات مختلفة. وأفق مثل هذا وبهذه المنطلقات، سيجعلنا لا نهتم كثيراً بالكتابات السهلة التي تملأ الصحف اليوم وتكوّن المحتوى المتكرر لأحاديث الصالات. هذه ستبقى في حدود اليومي. حديثنا الأوسع هو عن الثقافة وشؤونها في المدى المصيري لتطور المجتمعات واحتياجات الإنسان الأكثر خطراً.
ضمن ما يشغلني واتمنى القدرة على الحديث فيه، هو اني منذ سنوات اتتبع الأعمال الثقافية التي ترسم مشروعاً. إذ تُكلَّف مجموعة من المعنيين بانجاز عمل ثقافي كأن يكون موسوعة تاريخية او كرونولوجية لمرحلة زمنية، زمن الحرب الأولى أو الثانية مثلاً. او دراسة عامة لثقافة واحد من المجتمعات المعزولة كأن يكون الهنود الحمر أو سكنة التبت أو الهمالايا ، أو الأهوار في العراق او الآثار الفنية لجماعة منقرضة. فسيتسع هذا في المستقبل لنرى مسلسل اعمال روائية يقوم بها فريق! هذه المجاميع العاملة في الثقافة تذكرني بالشأن الصناعي قبل قرن أو أكثر. كانوا يجمعون العمال ويطلب منهم أن يعملوا بأسلوب معياري وبرقم إنتاج تحدده الآلات. يعملون ساعات محددة، اثنتي عشرة ساعة أو اكثر. مما ولد من بعد نظام المصنع – البروليتارية "الحضرية".
ما أخشاه ، ولا أخشاه في آن واحد هو أن تتحول المشاريع الثقافية الى مصانع انتاج ثقافي محدد الأغراض والموضوعات، تتولى الانفاق عليه مؤسسات لها ستراتيجياتها وأهدافها. وبهذا قد يقل "الابداع الفردي" أو يتحول الى هواية او "اعمال استراحة" بينما ينتعش العمل الجمعي مما يُحدِث نشاطاً ثقافياً متنوعاً وواسعاً ومجزياً.
أن لا أرى خطراً جاداً من ظاهرة قادمة كهذه. ربما هو قلق من عدم الوضوح. فقديماً كان الخوف من الصناعة والانتاج الصناعي ورئينا من بعد تقدم الحياة وتقدم الفنون. لا خوف على الكُتّاب الفرديين ولا على الفنانيين الفرديين كما لم تكن ضرورة للخوف على الحرفيين والغّزالين بوسائلهم اليدوية. العالم تطور وتطورت الحياة وتطورت حياتهم معها. ما أتصوره هو إن الكتّاب والفنانين الفرديين سيحتفظون بفردانيتهم وامتيازهم الشخصي في عديد المشاريع وقد يفيدون منها. مثال لنا اللوحات المهمة التي تزين اليوم بوابات المؤسسات والشركات واللوحات الجدارية للمباني العامة. وهذا الحضور الفني الباهر والواسع في الاعلان والتصميم الصحفي وعلب المنتجات الغذائية و التصميم الهندسي الفني للسيارات الحديثة.. هو هذا ما يسمى التطبيقات العملية للفنون. وهو يعكس ثقافة منتجة وتحضر مجتمعي. للحداثة فعل ولما بعد الحداثة فعل وللمستقبل فعل اكبر!
الحياة الجديدة ستحرك، بالتأكيد، مشاعر جديدة وأفكار جديدة وفلسفات للحياة جديدة وتفتح آفاقاً مما يستوجب آداباً وفنون متقدمة تسايرها. وهنا سيتم التخلي الى حد ما عن الرومانسي الى الواقعي الذكي والعملي أكثر. مع ذلك، سيبقى، كما إعتدنا من يحنون الى كتابات الماضي والجماليات التي خلفها الزمن ورائه.
لا أنا ولا سواي يستطيع أن يرسم صورة أكيدة وواضحة للآداب والفنون غداً. لكن ما نحن متأكدون منه أن وسائل الانتاج والاتصالات ستتدخل في تكوين هذه الآداب والفنون. كما ان المنتجات بأنواعها، زراعية وصناعية ستحمل فناً يعبر عن أفضليتها او تفوق مزاياها. وستُقَدَّم هذه كلها باشكال فنية وبذائقة ثقافية. وستكون أساليب وطرائق النشر، كما أساليب الكتابة والبحث، غير هذه. وسنرى وسيرى القادمون، كم متخلفين كنا، نحن المتبجحين بانجازاتنا اليوم. المستقبل سيعلمنا التواضع!

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

موسيقى الاحد:أريش فولفغانغ كورنغولد

صورة سيفو في مرآة الوهايبي

"مُخْتَارَات": <اَلْعِمَارَةُ عِنْدَ "اَلْآخَرِ": تَصْمِيمًا وَتَعْبِيرًا > "لِوِيسْ بَاراغَانْ"

"حماس بوينس آيرس" أول مجموعة شعرية لبورخس

علي عيسى.. قناص اللحظات الإبداعية الهاربة

مقالات ذات صلة

بورخيس،هايزنبرغ وإيمانويل كانت
عام

بورخيس،هايزنبرغ وإيمانويل كانت

أدار الحوار: مارسيلو غلايسر* ترجمة: لطفية الدليمي ما حدودُ قدرتنا المتاحة على فهم العالم؟ هل أنّ أحلامنا ببلوغ معرفة كاملة للواقع تُعدُّ واقعية أمّ أنّ هناك حدوداً قصوى نهائية لما يمكننا بلوغه؟ يتخيّلُ مؤلّف...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram