جاسم عاصي
استهلال
العلاقة القائمة بين الفنان الفوتوغرافي والوجود ، تتحقق خلال التعلق بالمكان ومداخلاته. لكن ما يفرّق بين صورة وأخرى هو ما يتوفر في كادرها عبر النظر إلى المكان من منطلق الاحساس به أولاً ، ومن طبيعته ثانياً، أي تشكلاته البنيوية ، باعتباره بنية ــ حسب رأي من كتبوا عن المكان ــ . وهنا نؤكد بنيته عبر علاقته بالإنسان وتشكله البيئي ،الذي يتجسد في عنصري التأثر والتأثير. فالوجود في المكان فيه تأثير على موجوداته ، وله أيضاً تأثرات ، أي اكتساب صفات ، أي أخذ وعطاء . من هذا يتجسد في الصورة التفاوت الفئوي والطبقي ،التي يفرزها اتحاد وتمازج وجود الإنسان في المكان . فثمة مكان فيه عناصر ترفيه ، وآخر فيه عناصر بؤس . ولعل الفنان (زياد تركي) معني بالأمكنة التي تنضوي تحت غطائها التجمعات ، فتنعكس صورة البؤس من صورة المكان المجرد من التأثيث مثلاً ، أي التأثير الرث. ويضفي الإنسان على المكان بؤس وجوده العاري من توفر ممكنات العيش على صورة تُليق بالبشر.. من هذا نرى أن الفنان انشغل في التقاط مثل هذه الجدلية بين الإنسان والمكان . وقد أحسن في اختياراته ، محققاً معادلاً موضوعياً بين مجموع هذه العناصر ، كأقرانه الذين انشغلوا بالإنسان والمكان ، ولكن من زاوية رؤى أخرى ، تتضامن فيها عناصرمتعددة منها وعي المفردة التي هي المكان ، ثم وعي جدلية وجود الإنسان في المكان . وهي نظرة طبيعية جداً ، يتوفر عليها كل من كان له وجود في المكان سواء بوعي أو بغير وعي، حيث يتعامل وفق حراك معرفي ، يكون أكثر قدرة على الالهام بالنسبة للفنان الفوتوغرافي ، يُساعده على اختيار زاوية اللقطة . فالفوتو فن براعة الاختيار وحساسيته.
زياد والهم الوجودي
يُقيم الفنان علاقته بالوجود المادي للأفراد والجماعات ، عبر الاحساس بحرج وجودهم في الأمكنة ، وتنقلهم بينها . بمعنى عدم استقرارهم في مكان يشكل تاريخهم الأسري والاجتماعي . إن تغيير المكان وفق انثروبولوجية الوعي ، هو عمل يمحو العلاقة مع المكان ، لأن العلاقة نوع من التأسيس للمكان . لذا فالمهاجر مهما كانت نوعية المكان الذي يُهاجر إليه ، لا يكون مأوى له ، وفق اعتبارات العلاقة النفسية التي تُصاغ بالعلاقة التاريخية . لذا نجد أن أفراد ومجموعات (زياد تركي) لا مكان لهم . فهو يلتقط ما هو أكثر تجسيداً لهذه الظاهرة ، وهي الغربة في المكان. ولعله في هذا يؤكد ضياع الهوية مركزياً . فالمهاجر لأي سبب مضطهد ، والاضطهاد يقود إلى تجريد الإنسان من كل ما يحقق هويته الأسرية والاجتماعية والفكرية ، وبالتالي هويته الكونية . فالمكان الذي يأوي الفرد والجماعات ، والتي غالباً ما تكون الأسرة . فهو مكان مجرد من مستلزمات الإيواء ، لأسباب كثيرة ، لعل منها عدم توفر ما يسد الحاجة والتعويض عن الفقدان ، ثم طبيعته التي تدفع بالإحساس الإنساني إلى التطرّف في عكس مكوناته ، حيث يُنعت بالمبالغة . ذلك كونه واحد من المؤثرات الأساسية في وجود الإنسان ، فكيف ما يكون المكان يكون الإنسان ، ويصح العكس. لذا نجد أن أفراد وجماعات الفنان هم من يداهمهم وحش الاغتراب في المكان .
هذا المحوّر لازم لمنتج الفنان ، ولم يبرحه قط ، لأنه وكما أرى هو نوع من فرض واقع قريب منه . ونقصد ( الهجرة عن المكان) هذا المتشكل البنيوي ، شكل لديه هاجساً قاده باتجاه ملاحقة الواقع المر بخطابات فنية متنوعة . خصوصاً أنه رصد الأمكنة التي شكّلت مأوى لأفراده وجماعات المفروضة عليهم ، بأن جسد حالتها التجريدية . فالأمكنة هذه لا تتوفر فيها سوى سمة الإيواء ، وليس كيفيته .من هذا نجد نماذجه وهي في هذا المأوى ، تشعر بعدم الاستقرار ، بل أنها وكما يظهر في كادر الصورة ، إنهم لا يتوفرون على علاقة دائمة فيه ،ولا يرومون مثل هذه العلاقة ، لأنهم يشعرون بغربتهم في المكان كما لو أن تاريخهم ارتبط بالتنقل بسبب الحروب والاحتراب القومي والطائفي . وقد انعكست صورة المكان التجريدية للمتلقي ، عبر تجريد المكان من حيويته ، ونعني به تأثيثه . فالأفراد والجماعات وهم في المكان يبدون كما لو أنهم يشعرون بأن هذا المكان ما هو إلا محطة مؤقتة . وهذا يتجسد خلال عدم إقامة أُلفة معه ، والتي يضمنها العمل على تأثيثه . فالفئات والطبقات البشرية مهما كانت شدة القهر الواقع عليها ، لا تنتفي عندها حالة تأثيث أمكنتها ، فيما توفر الاستقرار الناجز.
المتحقق الموضوعي والفني
كان أعلاه رصد المتحقق الموضوعي في نتاج(زياد تركي) الفوتوغرافي ، وهو متحقق له صلة حميمة ببنية المكان ، ووعي الإنسان . ونقصد البنية الفنية التي عليها الصورة.فالفنان شأنه شأن فناني الفوتو،ينشغلون فنياً وتقنياً بتجسيد مفردتي( الضوء والظِل ، الضوء والعتمة) وهما مفردتان ثابتتان ،والمتغيّر فيهما ما تسبغه نظرة الفنان لفعاليتيهما في كادر الصورة ، الذي يشف عن المكّون السيكولوجي لدى نماذجهم ، حتى لو كان مشهداً من الطبيعة ، لكنه أكثر تجسيداً في لقطات أُخرى ، لعل أكثرها توظيفاً هو( البورتيت). لما لهذا النوع من التقاط الصورة من دقة في اختيار زاويتها ، والعمل على معالجة الثنائية داخلها . فنياً يتجسد هذا في قدرة الفنان على تمثل هاتين المفردتين . والفنان( زياد) اعتمد على عنصري ( الضوء والعتمة) ليس لأسباب التوفر على صورة ملونة ، بقدر ما أكد على أن جدلية صراع المفردتين هو الأسلوب السردي الذي يضمن عكس واقع الحال . فالعتمة في المكان تتوزع أسبابها وإن كان السبب واحد هو القهر ، لكن تشعباته الواقعية التمت في عنصر العتمة ( الظلام) الذي شاء القدر أن يحكم هيمنته على الافراد والجماعات دون مسوّغ ، سوى كونهم مضطهدين ومشردين في أرض الله الواسعة ، الباحثين عن مأوى يحميهم . في هذا يجد الفنان عبر عين كاميرته أن يُكثف الضوء في الصورة . ولا يكتفي بذلك ضمن آلية التحقيق ، بل أنه يخلق من ضوء عين كاميرته عنصراً متحركاً ، يعمل على إزاحة العتمة . فثمة صراع بين الضوء والعتمة ، والإنسان يتوسط بينهما . هذا المتحقق الفني ، لعبت به قدرة الفنان الفنية على التلاعب بدرجاته من أجل تحقيق معادل موضوعية في الصورة . فقد جسد صورة الطفل وهو يرتقي سلماً خشبياً ، تُحيطه ظِلال العتمة المزاحة ، كاشفة عن أجزاء هيأته ، ومضمرة أخرى ، لكن الظاهر في الصورة الساكنة ، كونها متحركة بفعل صراع الضوء والعتمة فيها . أو أنه يرصد مجموعة من الصبية في منعطف شارع مبهمة ملامحه ، كُتب على جداره ، الأطفال يبدون مبتهجين بوجودهم اللائق بأعمارهم ، وليس ببؤسهم وجودهم.فهم يفترشون الأرض ، ويبدون على هيئات رثة .في لقطة أخرى تظهر فيها العائلة ، وكأنها وصلت للتو إلى المأوى ، تحيطهم العتمة ، وتتبعثر أثاثهن البسيط والسهل الحمل ، بينما باب المأوى يرسل دفقات الضوء ، كما لو أنه يسير باتجاه التوفر الضوئي في المكان ، والذي يتوفر بالنتيجة على اطمئنان الأفراد في المأوى . كذلك الطفل وأمه،الناظر كل منها إلى الآخر ، نظرات فيها معاني واسعة ، لكنها مكللة بالخيبة والأسى . أما البورتريت لوجه امرأة طاعنة في السن، فقد توفر على امكانيات عين الكاميرا وحساسية العدسة وعين المصور في اختيار الزاوية . هذا التوفر أظهر عناصر وجود المرأة في تشكلاتها السيكولوجية . فالضوء تركز على مكونات الوجه ، تاركاً زوايا تخطها العتمة ، فالصورة رسم بالضوء والعتمة. وهي عبارة عن خطوط تتلازم مع بعضها ،لترسم بؤس الشيخوخة ، وعلامات القهر الواقعة علي وجودها . الأمر الذي هيء لقطة غنية بمؤشراتها الفنية . فالكاميرا تكوين ملزم بالتعاضد مع عين الإنسان ، وهي جهاز تتحكم فيه حساسية العدسة . هذه المكونات ، أو ألية التصوير والمصور ، غدت قادرة على أن تعبّر بالفوتو من حرفته إلى فنيته الإبداعية . لعل الفنان( زياد تركي) عمل كأقرانه على تحقيق هذه المعادلة الفنية ، بإضافته لبنة تقنية لمجموع التقنيات التي اشتغل عليها الفنانون الفوتوغرافيون جميعاً . فلكل له أسلوبه في التصوير.