باسم عبد الحميد حمودي
لا أريد للقارئ الكريم أن يتسرع في رفض ,أو قبول , هذا العنوان, فقد أصابني مصطلح (علم الجهل) بالصدمة عندما قرأت الأشارة اليه يوماً في خبر نشر عن كتاب حوله ألفه الباحث الاميركي المتخصص في تاريخ العلوم روبرت بروكتور بالعنوان ذاته عام 1999.
نادى الرجل في كتابه باستخدام الشك وسيلة للمعرفة ,وهي وسيلة معرفية فلسفية مسبوقة عززها بروتو كوراس بالحوار السفسطائي ونماها أرسطو واشاعها ديكارت,وما قاله بروكتور ليس جديداً .
الجديد هو,تأكيده على (الجهل ) كعلم معرفي له قواعده , وأنه اشتق المصطلح الجديد ِ Agnotology من الكلمة اليونانيةagnosis التي تعني الجهل أو عدم المعرفة وكلمة antology وتعني علم الوجود أو الكينونة فلسفياً ولكنها منذ تسعينيات القرن الماضي تجذّرت سياقاتها في علوم المعلوماتية .
وتعني الكلمة الجديدة المشتقة من كلمتين :دراسة الأفعال المقصودة والمتعمدة لأشاعة الحيرة والشك والخداع بين الناس بقصد تحقيق مكاسب أوسع لسلطة أو مجموعة شركات أو بيع سلعة ما بالخداع,على مثل بيع التبغ دون التحذير من أخطاره أو تجسيد نتائجه ..الخ
لقد صاغ بروكتور مصطلحه الجديدِ Agnotology بمساعدة عالم اللغة أيان نو عام 1995 قبل ظهور كتابه وذلك عند البحث في فصوله .
ويجد بروكتور في عملية التجهيل سعي من قبل مصالح وسياسات كبرى لاشاعة التعتيم على الوعي الشعبي,ويقول بروكتور : أن الجهل ينتشرعندما لا يفهم الناس حقيقة ما يجري , ورغم أنه نادى بالشك وسيلة للمعرفة,لكنه أصر على وجود قواعد مرسومة للجهل والتجهيل في المجتمعات.
يقول بروكتور أيضاً : أننا نعيش في عالم من الجهل المتطرّف,والغريب هو أن أي نوع من الحقيقة يمر عبر الضجيج,رغم أن المعرفة متاحة فهذا لا يعني الوصول إليها .
ويشير الكاتب الفرنسي أوليفيه روا في كتابه (الجهل المقدس ) الى فشل متبني التعصب المذهبي –الديني في أثبات قدرتهم على الاقناع بغير القوة ,وهو يستعرض صراعات البروتستانت والكاثوليك تاريخياً وزحف البوذية على أوروبا ,كما يدرس الفروق بين الاسلامي المستنير والمسلم المتعصب الذي أدت أحادية النظرة لديه الى أرهاب لاحدود له ,لازالت الأمم والشعوب تعاني منه .
ويجد روا في كتابه الآخر عن (الاسلام السياسي) عرضاً لمتوالية الدين والدولة في وقت وجد في دراساته الشجاعة في إعلان أن الدول التي دانت بالاسلام عبر التاريخ ,أو كانت شعوبها بعامة مسلمة لم تكن أنظمة الحكم فيها دينية متصلبة بل علمانية التطبيق في عدة نماذج ,ولا سبيل هنا الى عرض آراء روا حول الدين والسياسة لارتباط موضوعنا بمنطق علم الجهل دون سواه .
إن الجهل بداية هو حجب الحقيقة وقد فعلها عام 1442 مكتشف القارة الاميركية السيد كريستوف كولومبس عندما وصل الى الشاطئ الاميركي ,وهدد الهنود الحمر بسرقة القمر أن لم يعطوه الماء الصافي والطعام ,وقد سرق القمر فعلا ليوم واحد عندما رفض سكان البلاد تلبية طلبه فأزداد رعبهم من (قدراته) لكن كولمبس وعدهم بأعادة القمر الى السماء في حال تلبية مطاليبه,وتم له ذلك بفعل انتهاء خسوف القمر مستفيداً من جهل أبناء القارة الجديدة بعلوم الفلك ,وهكذا يكون التجهيل وسيلة للفوز باللذات ,مثلما كان تجهيل الشعوب بوجود اسلحة الدمار الشامل في العراق سبباً رئيساً لغزوه بحثاً عن اللاموجود وصولاً الى التواجد الدامي !
درس العالمان دايننغ وغاستون كروجر-الاستاذان في جامعةكورنيل في نيويورك- عام 1995 (ظاهرة ماك آرثر) وكتبا دراسة نفسية عنها.
أن ظاهرة ماك آرثر تكشف عن حماقة وجهل هذا اللص الذي سطا على بنك في رابعة النهار وكشفت الكاميرات عن سرقته ,وعندما ألقي القبض عليه أصيب بالذهول وناقش الأمر مع الشرطة وهو يقول لهم: كيف ألقيتم القبض علي وأنا مقنع لا يرى وجهي أحد ؟),وعندما قالوا له أن وجهه كان واضحاً قال : كيف ذلك فقد غطيت وجهي بكأس من العصير واختفت ملامحه تماما !
وكانت دراسة دايننغ –كروغر تؤكد على جعل بعض الاشخاص لا يدركون جهلهم بالحقائق فيما يقودهم ذلك الى الاستعلاء والمبالغة والاوهام وسوء التقدير وتجهيل الآخر.
يقول داننغ أن ترامب هو المثال الواضح لسياسة التجهيل التي تتبعها الحكومة الاميركية اذ يقترح ترامب حلولاً سهلة لكل المشكلات غير دستورية ولايمكن تطبيقها عمليا وسط انشغال الاميركي العادي بالحصول على رزقه وساعات راحته يقول الكاتب السعودي أبراهيم البليهي بوجود علم متكامل للجهل والتجهيل ويؤكد رأيه هذا على جملة من الحقائق الموضوعية التي تنخر في المجتمعات شرقية وأوروبية ,ولا سبيل هنا لعرض آرائه لكنها لا تكاد تختلف عن آراء الباحثين الاميركان والأوروبيين في وجود علم مرسوم للجهل والتجهيل له قواعده ونتائجه التي أنعكست تاريخياً على حركة الشعوب عبر التاريخ.
تجوال مع (علم الجهل)

نشر في: 6 مارس, 2018: 06:21 م