ثائر صالح
تعد مقطوعة البحر التي ألفها سنة 1905 الموسيقي الفرنسي اللامع كلود ديبوسي (1862 - 1918) واحدة من أهم الأعمال الاوركسترالية التي ظهرت في تلك الفترة. هي في الحقيقة عمل سيمفوني يتألف من ثلاثة أجزاء أسماها ديبوسي تخطيطات سيمفونية. يعتبرها الكثيرون أبلغ تعبير موسيقي عن البحر، وواحدة من درر الموسيقى التصويرية والانطباعية.
لكن مع حلول نهاية القرن التاسع عشر، أضحت الحركة الرومانتيكية تدور في فلك التكرار. فبدأ قسم من الموسيقيين الفرنسيين بالبحث عن الجديد، فكانوا شغوفين بالتأثيرات الشرقية، في البداية لم يذهبوا أبعد من الموسيقية التقليدية الاسبانية بالذات الاندلسية (. غير أن المعرض العالمي في باريس الذي أقيم في 1889 كان نقلة في التعرف على عوالم جديدة في الموسيقى. فقد جاءت فرق موسيقية من مختلف بقاع العالم وقدمت موسيقاها. لذا نشهد بعد هذا المعرض ظهور اهتمام خاص بالفنون الشرقية الصينية واليابانية والشرق آسيوية عموماً لدى الفنانين الفرنسيين والبلجيكيين. بل يمكنني أن أتجرأ بالقول إن التيار الفني المسمى "الفن الحديث" قد وصل الذروة في العمارة والزخرفة عبر هذا الشغف الكبير بالفنون الشرقية. ولم يكن ديبوسي وغيره من الموسيقيين الفرنسيين استثناء، خاصة إذا علمنا أن أباه امتلك متجراً لبيع الخزف الصيني. وقد تأثر ديبوسي على الخصوص بفرقة موسيقية من جاوة في اندونيسيا تعزف الموسيقى التقليدية (غاملان)، فنجده يقتبس عالم الأصوات الأندونيسي الخاص في عدد من أعماله اللاحقة، منها عمله المعنون "باغود"، إذ يستعمل فيه سلماً بنتاتوني (خماسي النغمات، مثلاً السلم المتكون من المفاتيح السوداء الخمسة على البيانو) وهو السلم المستعمل لدى العديد من الشعوب. والحال نفسه في "البحر"، حيث يستعمل السلم البنتاتوني بكثرة، وتأثيره على السامع هو زيادة الانشداد والتوتر.
استعمل ديبوسي اوركسترا فيها وتريات وزوج من الأدوات الأخرى وثلاث أدوات من كل من الباسون والترومبت والترومبون، وأربعة من الهورن، لأنها كانت تمثل اله البحر الأغريقي، علاوة على أداتي هارب وأدوات ايقاعية مختلفة للحصول على التأثيرات الصوتية المطلوبة.
لم تكن موسيقى جاوة المنبع الوحيد لهذا العمل الفذ، بل هو مزيج من عدة تأثيرات وخلاصة ما مر به من تجارب وخبر، من طريقة استعمال باخ للحلية والزخرفة حتى أناقة ورشاقة موسيقى شوبان وتأثيرات الموسيقيين الروس الذين نشطوا في باريس، مثل مودست موسورسكي.
تحمل القطع الثلاث اسماءً هي "من الفجر حتى الظهر" و "تلاعب الأمواج" و "حوار الريح والبحر". وتعكس الموسيقى هذه العناوين عموماً، فالأولى تبدأ بشيء من الغموض، تماماً كما يبزغ الفجر، تتبادل فيها الألوان والظلال. والثانية تعني الحركة وانتشار الضوء وسقوطه على الماء المتماوج واختراقه الأعماق المجهولة. أما الثالثة فتصور هاتين القوتين الهائلتين من قوى الطبيعة، الريح والبحر، والتدرج من هدوء البحر حتى الذروة العاصفة لعناصر الطبيعة. في الحقيقة تحيلنا القطعة الأخيرة الى لوحة يابانية كانت معلقة على جدار مشغل ديبوسي، رسمها الفنان الياباني هوكوساي كاتسوشيكا (1760 – 1849) سنة 1830 أو 1831، عنوانها "الموجة العظيمة أمام كاناغاوا" ويظهر فيها جبل فوجي المقدس عند اليابانيين.