TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > قناديل: أعراف أم أخلاقيات أم دستور مكتوب ؟

قناديل: أعراف أم أخلاقيات أم دستور مكتوب ؟

نشر في: 10 مارس, 2018: 06:34 م

يبدو العنوان مثار مداولات فلسفية ذات طبيعة قانونية لطالما تناولها منظّرو القانون الدستوري وفلاسفة الأخلاق بالدرس والتحليل ، ويعود بعض أصل تلك المداولات إلى عصر الإغريق ، أما بعضها الآخر فحديث النشأة شاع في عصر بزوغ مفهوم الأمة - الدولة خلال تأسيس الدول الحديثة في أوروبا القرن التاسع عشر .
لكنْ أيّ الثلاثة هو الأكثر أهمية : الأعراف أم الأخلاقيات أم المدوّنات الدستورية ؟ الحقّ إن هذا سؤال في غاية الصعوبة ويستعصي على إجابة محدّدة ، وقد مثّل معضلة إشكالية لفلاسفة القانون ؛ غير أنّ تلك الإشكالية تتراجع قليلاً إذا ماحدّدنا مجال عمل وتأثير كلّ عنصر من تلك العناصر الثلاثة .
تبدو الأعراف في العادة أكثر صلة بتفاصيل الحياة اليومية للناس ، وأكثر قرباً لمعاملاتهم اليومية ؛ وعلى هذا الأساس فهي أقرب إلى نوع من المحدّدات السلوكية غير المدوّنة في نصوص قانونية ، وهي على الرغم من ذلك تملك سطوة القانون وينصاع لها الجميع عن قناعة ، ولو دققنا في التفاصيل الحاكمة لسلوكيات الأفراد في البلدان المتطوّرة لرأينا الأغلبية العظمى منها مُنقادة لموجبات الأعراف السائدة قبل موجبات القوانين والدستور .
أما القوانين فهي صنيعة الدولة وجزء من عملها المرسوم ضمن الشقّ التشريعي في مثلث السلطات المنوطة بالدولة الحديثة ( التشريعية ، التنفيذية ، القضائية ) ؛ في حين أن الدساتير المكتوبة هي القوانين الكبرى التي لاينبغي أن تخالفها كل القوانين السائدة .
إنّ الأعراف الجيّدة ( البعيدة عن الأعراف القبلية السائدة في مجتمعات ماقبل الدولة الحديثة ) هي ما يُعوّل عليها في ترسيخ الأخلاقيات التي تنهض بمستوى حياة الأفراد ، والأعراف قبل ذلك لها العلوية على القوانين والدساتير لأنها تفرض نوعاً من القيود المطلوبة على فعل السوء والإيذاء تجاه الآخرين ، وبالإضافة لذلك فهي تمثّل نوعاً من السلوك اللحظوي الواجب إتخاذه قبل الشروع في مداخلات قانونية من جانب الحكومات ؛ وعليه يمكن اعتبار الأعراف بمثابة مدوّنة سلوكية لاشعورية محفورة في وجدان الفرد وهذا سر سطوتها وقوتها في التأثير.
مادفعني لكتابة هذه المقالة عبارة قرأتها في الفضاء الفيسبوكي الصخّاب جاء فيها ( لاتوجد قواعد ولاأصول على مر التأريخ ؛ فالذي تراه أنت أصولاً يراه الآخرون شيئاً تافهاً والعكس بالعكس ) . كم تنطوي هذه العبارة على الإلتواء المفاهيمي الذي يريد إحالة غياب الأعراف المؤثرة في بيئتنا إلى نوع من النسبية الثقافية والسلوكية التي سادت في أدبيات مابعد الحداثة ، وهنا يحصل خلط السمّ بالعسل والتغطية على غياب الأعراف الطيبة في حياتنا .
إنّ الأصول والقواعد التي وردت في ذلك المنشور الفيسبوكي إنما هي وجه آخر لمفردة تقنية هي ( الأعراف Norms ) ، وهي موجودة حاكمة في كل زمان ومكان . بريطانيا ، مثلاً ، ليس لها دستور مكتوب وهي أعرق الديمقراطيات في العالم وواضعة المسودة الحقوقية الأعظم التي تدعى ( ماغنا كارتا Magna Carta) عام 1832، والقاعدة الموجّهة لتلك الأعراف هي الكياسة ومراعاة حقوق الآخرين ، وتلك من الأعراف البديهية التي وضعها الإنسان تمثلاً بالقاعدة السلوكية العامة التي تشكّل جوهر كل الأنساق الاخلاقياتية ( وحتى اللاهوتية ) والتي مفادها ( إرتضِ للآخرين ماترتضيه لنفسك) ؛ لذا تركن الشعوب كثيراً إلى الأعراف السلوكية وتراها الأساس الذي يُعوّل عليه ، وتأتي القوانين والدساتير لتدعيم تلك الأعراف الطيبة وترسيخ مكانتها في خدمة الصالح العام .

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق منارات

الأكثر قراءة

هل ستعيد التشكيلة الوزارية الجديدة بناء التعليم العالي في العراق؟

العمود الثامن: ماذا يريدون؟

العمود الثامن: من كاكا عصمت إلى كاكا برهم

العمود الثامن: معركة كرسي رئيس الوزراء!!

العمود الثامن: عبد الوهاب الساعدي.. حكاية عراقية

العمود الثامن: صنع في العراق

 علي حسين اخبرنا الشيخ همام حمودي" مشكورا " ان العراقي يعيش حاله من الرفاهيه يلبس أرقى الملابس وعنده نقال ايفون وراتبه جيد جدآ ، فماذا يحتاج بعد كل هذه الرفاهية. وجميل أن تتزامن...
علي حسين

قناطر: في البصرة.. هذا الكعك من ذاك العجين

طالب عبد العزيز كل ما تتعرض له الحياة السياسية من هزات في العراق نتيجة حتمية لعملية خاطئة، لم تبن على وفق برامج وخطط العمل السياسي؛ بمفهومه المتعارف عليه في الدول الديمقراطية، كقواعد وأسس علمية....
طالب عبد العزيز

تشكيل الحكومة العراقية الجديدة.. من يكون رئيس الوزراء؟

إياد العنبر يخبرنا التراث الفكري الإسلامي بأن التنظير للسلطة السياسية يبدأ بسؤال مَن يحكم؟ وليس كيف يحكم؟ ولعلَّ تفسير ذلك يعود لسؤالٍ مأزومٍ في الفقه السياسي الإسلامي، إذ نجد أن مقالات الإسلاميين تبدأ بمناقشة...
اياد العنبر

هل الكاتب مرآةً كاشفة للحقيقة؟

عبد الكريم البليخ لم يكن الكاتب، في جوهره، مجرد ناسخ أو راوٍ، بل كان شاهداً. الشاهد على لحظةٍ تاريخية، على مأساةٍ إنسانية، على حلمٍ جماعي، وعلى جرحٍ فردي. والكاتب الحقيقي، عبر العصور، هو ذاك...
عبد الكريم البليخ
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram