TOP

جريدة المدى > عام > بين النقد النسوي.. والرواية النسوية

بين النقد النسوي.. والرواية النسوية

نشر في: 10 مارس, 2018: 06:42 م

د. نادية هناوي

من الطبيعي أن تحاول الكاتبة العربية اليوم، مقاومة التبعية الذكورية غير معطية الحق للرجل في التسيّد، وقد أتخذت مقاومتها هذه صورا عدة منها مقاومة مجتمعية بالنضال والكفاح ومقاومة ذاتية بالاصرار والتحدي ومقاومة ثقافية بالتميز في التأسيس والتجريب.
وليس متاحاً أمام النسوية لكي تقوّض الأبعاد البطولية للأبوية؛ إلا أن تصمم على تهشيم الاعتداد الفحولي، مؤمنة بقدرتها على جعل الآخر معترفاً بها وبأثرها المحوري والايجابي في الحياة.
ولا غرابة أن تكون وجهة النظر هذه نسوية ما بعد حداثية، تنبذ صورة المرأة حين تكون قابعة تحت ضغط التجاوزات الجنسية والمعاناة الواقعية والرضوخ الذي به موت مطامحها والمصير المحتوم الذي لابد لها أن تقنع به، كأن النساء مجبولات على المطاوعة والتسليم وأن الطبيعة هي التي قد حكمت عليهن بذاك وليس الآخر الذي عمل بقصدية على إيهامها أن أي سوء انتهاك للأعراف والمواضعات ـ أيا كان هذا الانتهاك فنياً أو غير فني ـ هو انسحاب من مسرح الحياة، وقبوع مؤبد في الكواليس التي بها دمار ذاتها.
هذا ما جعل الشخصية النسوية في الرواية الحداثية وما قبل الحداثية التي تكتبها المرأة تتعاطف مع الرجل وتجرّم المرأة، مجيِّرة انجازاتها وأعمالها لصالح الرجل واصفة إياها بالضحية لعالم اجتماعي فقدت فيه براءتها أو كجنس آخر يغوي ويُغري في مسار ذي نهاية متجهة حتماً نحو الموت. والنتيجة هي كتابة مسترجلة تريد من المرأة أن تصوّر بنات جنسها بالشكل الذي يرضي غرور الرجل وعنته، وليس بالشكل الذي تريده هي وتطمح إليه.
إن الأساس النقدي للرواية النسوية ما بعد الحداثية لم يعد مهادناً الذكورية، بل صار له جوهره الخاص الذي لا يراوغها ولا يدعي الظفر عليها، ولكنه يحرّض على الكتابة ضدها في محاولة لإثبات بطلان ادعاءات النقد الفحولي بازاء النسوية والجسد المؤنث.. مستولداً واقعاً نقدياً جديداً يغاير الرؤية المهيمنة التي تحاول إثبات أن ما يسعى النقد النسوي إلى استظهاره إنما هو ضرب من الأحلام الدونكشوتية وأن المرأة ليس باستطاعتها استنطاق ذاتها وتمثيلها أنثوياً كما ليس بمقدورها إعلان خارقية ذلك التمثيل نسوياً.
ليغدو النزوع الانثوي في الكتابة النسوية ما بعد الحداثية، بمثابة الصوت الذي يغرد داخل السرب، والكيان الذي يموضع التحريض ويستنهض الانتفاض ويؤججه،.
وتتأتى مشروعية النقد النسوي في مناهضته للنقد الذكوري، من الارتكان على منهجيات ونظريات وستراتيجيات وفاعليات لها صلة بمناحي الانجاب والعذرية والأمومة والاحتواء وغيرها من المناحي التي لا يعطيها النقد الذكوري أهميتها من باب التعالي على الانثوية، متمنطقاً بلغة التغليب وفاعلية الالغاء..ناظراً للانثوية باشتهاء وإغواء ينافي هويتها ويعيق أداءها لدورها الحقيقي.
إن هذه الصور الرمزية والواقعية للكيان المؤنث هو ما تحاول الأبوية تشويهه، واصفة المرأة المتحررة، بأنها كيان منقسم على نفسه، يعيش حالة اللاتوازن والضعف..الخ
وما موقف التحدي الذي تقفه الروائيات العربيات في مرحلتنا ما بعد الحداثية؛ إلا دليل قاطع على أن الانثوية حاضرة لا كمظهر سطحي، بل كفعل استغوار داخلي، فيه الأنثوية ليست رديفة المرأة فحسب؛ بل هي هويتها ومصدر فاعليتها وسلاحها الذي به تفرض وجودها وتثبت ايجابيتها كصيرورة لها سطوة، وقيمة لها معطى، وكينونة منتجة يتعدى تفسيرها التحليل النفسي والتأويل المادي التاريخي، كما يتجاوز الطروحات الفلسفية والجنوسية والاسطورية والأثنية.
وليس النزوع الانثوي عند المرأة الأديبة على المستويين الواقعي والخيالي، أمر ادعائي، وانما هو حقيقة فيها المرأة عصية متمردة وليست مقهورة أو محنطة.. كونها تستبطن ولا تستظهر، وهي تثق فلا تتوهم، وتسفر غير مذعنة للحجب الذكوري، واضعة أملها في النقد النسوي، كي تناقض الصورة التي رسمها لها النقد الفحولي.
وما مهمة النقد النسوي إلا فضح المنظور الذكوري وغربلة صورته الاحتفائية، التي تحاول أن تخرس الفعل الإنثوي وتسكته إن لم ترد تغييبه، ممارسة نوع من العنت النقدي الذي به تغتصب النزعة الانثوية، وتسحق الابداعية النسوية، ليداس عليها بكبرياء رجولي.
من هنا تغدو مهمة النقد النسوي مهمة عويصة المنال، إذ لا يمكن بلوغها إلا إذا صممت المرأة كاتبة وناقدة على مصافحة جسدها، مالكة مفاتيحه، متكلمة عنه بلغة مخصوصة، وبسلطة مركزية، متمكنة من إحكام قبضتها على الآخر. وعندذاك ستستوي الذات النسوية فاعلة وواعية وشريكة بلا دونية، وبثقة ليس فيها استلحاق أو انسحاق.
وهذا ما يسعى النقد النسوي إلى توكيده، والتبشير به فخطاب المرأة لا بد أن يكون مركزياً وأمومياً، كستراتيجية ذات فاعلية جديدة وعملية ثقافية مغايرة، تحاول زحزحة الأسس العتيدة للفحولة ومعاييرها، طارحة تساؤلاتها بحرية منحازة إلى ذاتها، غير محتاجة إلى انتحال صوت الأبوية، وهذا ما نجد تمثلاته في الرواية النسوية ما بعد الحداثية، بعكس الرواية الحداثية التي باتت أغلب نماذجها النسوية مسترجلة تنظر للأنثوية بمنظار ذكوري.
ولا يخفى إن عوامل الاقصاء والتهميش والمصادرة مجتمعة اسهمت في جعل الانثوية سمة تكوينية تميز النسوية في تحدياتها التي تخوضها على شتى الأصعدة، مؤمنة أن هذه السمة التي كانت يوماً ما سببا في دونيتها وتبعيتها، هي التي ستكون سلاحها الثقافي الذي به تسترد قيمتها، وتؤكد هويتها بمركزية واضحة وجلية. وبهذا تحقق الرواية النسوية العربية بعضاً من مبتغياتها.
قد يذهب بعضهم إلى القول إن الكاتبات العربيات المعاصرات، ليس أمامهن إلا الخضوع لنمطية الدور الكتابي المتاح لهن في ظل الهيمنة الأبوية..باستثناء محاولات هنا وهناك..
ولا خلاف أن مسألة الندرة أو الاستثنائية في وجود نزعة أنثوية في الكتابة النسوية، قد يظل مغايراً للحقيقة وقد يبدو جزافياً وإطلاقياً، بعيداً عن حقيقة المشهد الروائي النسوي، مماشياً ما يروجه النقد الذكوري من أفكار تتصف بمجانية الطرح ومعتادية التصور المتبلور في الأساس من هاجس فحولي ذي نبرة استعلائية، لا يقر بالدور الأنثوي في الكتابة الروائية النسوية، غير آخذ بالحسبان التمشكل الجمالي والفكري، الذي تحاول أن تقطعه الكتابة النسوية على المستوى الابداعي بعامة والمستوى الروائي بخاصة.
وإنَّ تحقيق الكتابة النسوية لأنثويتها سيستنّزف طاقة المتبوع، بينما يستنّفر طاقة التابع، كي يسحبه من منطقة الظل ويضعه في منطقة الضوء، مهيئا له سبل الكفاح، لتغدو الأنثوية اصطلاحاً لا تعني الجنس البيولوجي، وإنما سمة ثقافية لأنساق جديدة لا تنفلت من قبضة الأبوية إلا لكي تقبض عليها.
بعبارة أوضح أن الجنس لدى النساء، ما عاد هو المقياس المباشر لإضعاف الرجل من منطلق حسي يقوم على الترغيب والاغراء، بل من منطلق تجريدي يقوم على المنافسة والاسبقية التي بها ستمتلك الأنثوية القوة التي تجعلها تتحكم بالآخر، تحكماً ثقافياً ليس فيه تغليب؛ لكنه مركزي ..

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

موسيقى الاحد:أريش فولفغانغ كورنغولد

صورة سيفو في مرآة الوهايبي

"مُخْتَارَات": <اَلْعِمَارَةُ عِنْدَ "اَلْآخَرِ": تَصْمِيمًا وَتَعْبِيرًا > "لِوِيسْ بَاراغَانْ"

"حماس بوينس آيرس" أول مجموعة شعرية لبورخس

علي عيسى.. قناص اللحظات الإبداعية الهاربة

مقالات ذات صلة

بورخيس،هايزنبرغ وإيمانويل كانت
عام

بورخيس،هايزنبرغ وإيمانويل كانت

أدار الحوار: مارسيلو غلايسر* ترجمة: لطفية الدليمي ما حدودُ قدرتنا المتاحة على فهم العالم؟ هل أنّ أحلامنا ببلوغ معرفة كاملة للواقع تُعدُّ واقعية أمّ أنّ هناك حدوداً قصوى نهائية لما يمكننا بلوغه؟ يتخيّلُ مؤلّف...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram