صادق الطريحي
تخبرنا الطبيعة كلّ يوم أنّ لكل نشاط حيوي مخلفات ما، لا يمكن الإفادة منها في المجال نفسه؛ لذلك يتخلص منها، أو تحول إلى مجال آخر بعد إجراء عمليات عليها. ولا يختلف الأدب بوصفه صنعة، ضمن مجال ثقافي ومادته الأولية اللغة، عن هذه السنّة الطبيعية؛ ولكننا لا نستطيع معاينة النفايات الأدبية وتعريفها وتصنيفها، لصعوبات عدة، منها تعريف الأدب نفسه بوصفه نصًا جمالياً على وفق انزياحات لغوية جديدة ضمن قواعد وأنظمة قارة، كما لا يمكن تصور أنّ لغة ما تنتج بعض النفايات، وقد كتبت مقدسات الشعوب، وتأريخها ودستورها بهذه اللغة، وقد فطن بعض الأدباء إلى خطر النفايات الأدبية، فاصطنعوا لهم درساً أدبياً يعنى بتنمية الملكة الأدبية للطلبة، فاختاروا لهم ما يعتقدون أنه جوهر الأدب، كما فعل سيد بن علي المرصفي، مثلا في كتابه (الوسيلة الأدبية).
ولو نظرنا إلى اللغة بوصفها كائناً عضوياً أو اجتماعياً لوجدنا أنها تتأثر بمؤثرات عدة، بعضها خارجية، كتأثرها بلغات أخرى، أو انتقال المتحدثين بها إلى طور حضاري جديد، أو هي تتأثر بعوامل من طبيعة اللغة نفسها من حيث الأصوات والقواعد والمتن، وإذ تتطور اللغة فإنها في الوقت نفسه تفقد بعض خواصها! إذ تتحول بعض الكلمات إلى مجرد أشكال باردة حائلة اللون نتيجة الاستعمال الروتيني للغة، وإذا لم ينجح الشعراء والكتاب في إعادة بعثها من جديد فإنها ستتراكم وتتحول إلى نفايات، بحسب النظام الطبيعيّ للكون.
أما في المجال الثقافي فيرى الأنثروبولوجي مالينوفسكي أن المعنى غير متأصل في الكلمات أو القضايا، بل يتوقف على ما أصطلح عليه بالسياق، لذلك يمكننا ملاحظة أن الكثير من النصوص التي ربما كانت مقدسة في زمن ما، قد استحالت إلى نظام ثقافي آخر، وفقدت قيمتها العقائدية، ودخلت في مجال الأسطورة أو الشعر مثلاً.
وقد كان لظهور الحركات السياسية في القرن العشرين تأثير واضح على الأدب، فصرنا نستمع إلى أحاديث تدعو إلى دراسة شعر المقاومة، وإلى الكتابة الواقعية، واستعمال اللغة اليومية في الأدب، كي تفهمه الطبقات المسحوقة من المجتمع، لأنّ الحركات السياسية الجديدة تريد تحرير هذه الطبقات! وكان من نتيجتها ظهور مئات الشعراء المقاومين من مكاتبهم الصحفية، وملايين النسخ من الأدب القومي مثلاً.
واليوم ظهرت طوائف سياسية جديدة تبحث عن الشعرية في نصوصها العقائدية، وتدعو إلى الكتابة عن رموزها المؤسسة، وتدعو إلى أدلجة الأدب والنقد والبحث العلمي، كي نتخلص من سطوة التأثير الأجنبيّ في الأمة الواحدة، ولإمكانياتها المادية الهائلة فقد أنتجت مطابعها مئات البحوث المكررة وعشرات المجلدات الشعرية عن شخصيات قوية استطاعت أن تتجاوز زمنها في التأثير، ولكنّ معظم الشعر الذي قيل فيها لا يرقى إلى مستوى الشعرية؛ لأنها لا تدرك أنّ شرف الشخصية أو القضية، ليس شرطًا في إنتاج الشعرية، وأنّ الشعر المناسباتي لا يصدر عن روح الشاعر، وربما كانت قصيدة واحدة في المناسبة تغني عن مئات القصائد الأخرى.
وفي تراث مدننا الكثير من الشعر والشعراء، فلم يسع الناس في أوقاتهم إلى استنساخ دواوينهم بكثرة، لوجود من هو أفضل منهم، لكنّ التنافس بين المدن اليوم، جعلها تعمل على تدوير هذا الشعر من جديد، لظنهم أنه يخدم قضيتهم الخاصة، دون أن يشعروا أنّ الكثير من الشعر سيبقى في مجال تأريخ الأدب، وشتان بين الأدب وتأريخه، وتلك الأيام نداولها بين الناس.