TOP

جريدة المدى > عام > ستار كاووش: الفن ليس لعباً ولا لهواً, بل موقف

ستار كاووش: الفن ليس لعباً ولا لهواً, بل موقف

نشر في: 11 مارس, 2018: 06:42 م

صلاح عباس
حث الفنان ستار كاووش, خطاه الواثقة في مجالات الثقافة والآداب والفنون, منذ اكثر من ثلاثين سنة, محققاً منجزات متنوعة في الكتابة النقدية والرسم بالالوان والتصاميم ورسم (الموتيف) الذي مكنه من إحالة النص الادبي الى نص صوري مفعم بالحيوية والاثارة البصرية, وهذا الدأب الفني والتواصل اليومي, أمّن له حضوراً واسع النطاق ضمن الملتقيات العربية والعالمية على حد سواء.

فكيف لنا سبر أغوار عالمه الفني الخاص وفض أفواه المعاني التي يتوق الى بلوغها على نحو مميز؟
في البدء, لابد من التعريج على مراحله المبكرة, عندما كان شاباً متحمساً ومندفعاً بقوة إيمانه بموقفه وثقته بتجاربه وتوصلاته الفنية في مطلع العقد الثامن من القرن الماضي, كان ستار كاووش, يرسم يومياً وبلا انقطاع, مجسداً مواضيع يومية أو خبرية عن الاصدقاء وهمومهم, وعن طبيعة حياة المجتمع البائس حينذاك, هذا المجتع الذي ينوء تحت ثقل هموم الحياة والعيش الكفيف وأوضاع التشرد والضياع والبؤس والفقر, كما كان يهمه رسم صور الاصدقاء في حركات وأوضاع تشبه لحظات (الاكشن) ورسم الأرصفة والشوارع وزحام السيارات, وكانت رؤيته الفنية مسوغة بموقف فلسفي من شأنه وضع صيغ انتقادية للواقع المرير, الذي كان يكابد محنه ووجوده فيه, بيد أن آلية الرسم عنده, كانت تمازج بين المنهجين الواقعي والتعبيري, ففي جانب الرسم الواقعي كان يحقق أعلى قدر من ضبط النسب ورسم المنظور, البعيد والقريب وايلاء أهمية للاضواء وانكسارالظلال, في حين يتجلى الجانب التعبيري عنده في صيغ الرسم المؤدى بحركات سريعة تتحسس بالملمس وحركة الفرشاة المسيطر عليها تماماً.
إن التواصل اليومي مع الرسم, حتماً سيسهم في معرفة خصائص المواد الخام التي يوظفها الفنان, ولابد أن يحسن اختيار الانساق الشكلية التي تمهد له انتخاب كيفيات الاختيار المناسبة للوحة الجديدة, وكذلك في انتقاء المواضيع التي تحتفي بعناصر الإثارة البصرية, ومعرفة خصائص المواد الخام, ليست بالأمر الهين على الاطلاق, ذلك أن هذه المواد تعد وسائط الفنان للتعبيرعن ذاتيته وما يعتمل في أفكاره ومخيلته ومزاجه وأهوائه ورغائبه, وربما حدوسه او نظرته الاستشرافية للغد, ثم أن الاشكال التي ينتقيها أو يبتكرها, ما هي إلا حواضن ملائمة لتجميع اللقى الفكرية والتخيلية والعاطفية, ولملمتها على نحو متسق بحيث تقبله بصيرة المتلقي بألفة ومحبة واعجاب.
اعتقد: إن ثمة فروقات تحسب لصالح الفنان ستار كاووش, لاسيما إذا أخذنا بنظر الاعتبار موهبة الرسم المتاصلة في نفسه والمغروسة في روحه, منذ مرحلته الطفولية المبكرة, وما الرسم اليومي سوى اجراءات مكرسة للتواصل مع الحياة بكل ما تنطوي عليه من تفاصيل متباينة وأحداث ومفارقات, وعندما يرسم الفنان, فلا شيء يهمه سوى أن يبلغ أعلى قدر من حريته, ومهما تصغر أبعاد اللوحة أو أي سطح آخر, فانها تتسع لتشمل الكون كله.
بماذا يفكر الفنان وهو بمواجهة السطح التصويري؟
لكي نجيب عن هذا التساؤل, يلزم التنويه الى سبل الاداء الفني وآلية الرسم, والفنان يرسم وفق سياقات الرسم المعتادة, يضع اللوحة على حامل الصور, ويحافظ على اتجاه الموضوع المراد رسمه, ولا يرسم إلا بعد التحضير ووضع أوليات الانشاء بشكل تصميمي محسوب الابعاد, بحيث يستطيع معرفة النتائج المحتملة مسبقاً, ولم يغامر الفنان في زحزحة المعادلة والخوض في غمار التجارب التي لا تتساير مع منهجه الفني مثل استخدام المواد المختلفة التي تخرج عن كونها صالحة للرسم, أو غير صالحة, لأنه لا يفكر بمغادرة الرسم كـ (مفهوم) ولا ينوي هجرة مفرداته أو وحداته الصورية وشخصياته التي تأقلم معها وأحبها وبذل مجهوداً كبيراً لكي يحقق تميزه من خلالها, وبهذه الحالة فان الرسم لديه هو الرسم دائماً, ألوان ومذيبات وأنواع من فرش الرسم وسطوح تصويرية, وكل هذه المواد يجب أن تكون مصنعة أصلاً للرسم, والفنان ينتقي أفضل أنواع المواد الخام, لكي يصنع أفضل اللوحات تماشياً مع قول (بيكاسو) (المواد الخام الفقيرة لاتنتج سوى فناً فقيراً) وبذا, يحرص الفنان ستار كاووش على انتقاء النوع الاحترافي من المواد الخام ليصوغ بها أجمل الحلل اللونية, وقبل أن يضع فرشاته على سطح اللوحة فانه يؤمن لنفسه أجواء تكاد أن تكون طقوسية, ولكنها في كل الأحوال أجواء خاصة جدا, ثم يجري حواراً داخلياً مع سطح اللوحة, فان استجاب السطح التصويري للغة الحوار صار بالامكان انتاج لوحة ناجحة, وإن تعذر ذلك, فان الفكرة ستغدو من المؤجلات لحين آخر وللحظة ابداعية أخرى, وكما قال الفنان الراحل رافع الناصري (إن سطح اللوحة عنيد, وبمزاج متقلب, مثل صبية مراهقة) وعملية الرسم تشبه الى حد كبير مزاولة العاطفة والحميمية, وعلى هذا الاساس نؤكد على فحوى وجوهر الحالة الطقوسية التي يزاولها الفنان ستار كاووش خلال لحظة استعداده للرسم.

كيف يرسم الفنان؟
عندما تفرض الفكرة سطوتها وحضورها في رأس الفنان, فستكون أشبه بالجذوة المستعرة, فان لم يستطع الفنان استظهارها بالشكل اللائق فستتحول هذه الجذوة, الى شرارة من شأنها أن تحرقه هو, صحيح إن الفنان رسّخ نمطاً من الالفة بينه وبين مواضيعه, إلا أن بعض المواضيع التي تمثل اسئلة حائرة ويجب الاجابة عنها بحذق وبراعة, وغالباً ما تكون هذه الاسئلة مشاكسة, أو أن ايقاعها مؤثر حسياً وعاطفياً, وخاصة إذا عرفنا إن الفنان معني بالادب السردي, فستكون الافتراضات تشبه علمية بناء حكائي أو قصصي, وكما أشرنا مسبقاً بان للفنان خوض في مجال رسم الموتيف الصحفي, وهذا الخوض مهد له, لكي يجد صلات وصل, تؤاصر بين المنحيين الأدبي والفني معاً, عندئذ يجب مناغمة الفكرة وإعادة تصنيعها وفق نظم شكلية محكمة, وعندما كانت رسوماته القديمة تبقي على حركات الفرشاة وتحسس بكثافة الملمس, فأن رسوماته الأخيرة اختلفت تماماً, حيث إنه تخلّى عن المنهج التعبيري الذي يعتمد على الانفعال والسرعة في الاداء, لصالح اسلوبيته الجديدة المستندة لمفاهيم الترميز والسرد, وذلك يلزم توخي الدقة في الرسم وايلاء أهمية قصوى للمواضيع العاطفية التي تجمع بين عاشقين, في أغلب الاحوال, وتجسدهما في أوضاع تصميمية أخاذة, ويحف بهما أنواع من الزخرف الحر المشغول باحتراف وصنعة ماهرة, وبالمحصلة ستكون اللوحة أشبه ب(ايقونة) تروي قصة عاشقين برؤية رومانسية مثيرة للاعجاب.

التنوع والدلالة:
إن المتصفح في سفر الفنان وسيرته الفنية, سيجد نفسه بمواجهة التجارب, المتباينة, وحتى لو اختلفت, فإنها, سرعان ماتظهر شخصية الفنان, إنها تجارب متنامية, مثل الكائنات الحية وتتناسل الواحدة عن الاخرى, ومثلما قال الناقد (بلنسكي) (ان الاسلوب هو الفنان ذاته, وليس سياق العمل الثابت) والفنان ستار كاووش يشتغل بمنطقة الحرية على الرغم من التقنين والعناية برسم التفاصيل والأجزاء, وعلى الرغم من توخي الدقة بالرسم إلا انه يبقي على رسم الخطوط الخارجية للوحدات الصورية والإشارية لتأكيد اهميتها بوصفها العقدة والحل, والعلامة الفارقة للموضوع المنتخب, ونجد في اللوحة أيضاً, تضاداً لونياً حاداً, غير أن هذا التضاد وبلمحة بصر سريعة وخاطفة, سيكون متوافقاً ومنسجماً وتقبله العين المتلقية له, وهذا هو سحر الفن دائماً.

وحدة الانسجام الموضوعية:
لو إنك رأيت لوحة من أعمال الفنان, فسرعان ما تقول: (هذه لوحة ستار كاووش) فكيف أمكنك الاسترشاد لها؟
اعتقد انك تسترشد لها ليس من خلال الشكل الثابت, ولا من خلال ألوانها المتبارقة او المتشذرة, ولا من خلال نظامها الخاص بتوزيع المفردات والوحدات الصورية, بل إنك سترى لوحة جديدة, وغير مسبوقة ولم تسقط في فخاخ التقليد أو الاتباعية لأي منهج, ولكنها بالوقت نفسه تحمل سمات الفن العراقي في أحسن احواله, ولو اننا بحثنا في الكيفيات التي سمحت للوحة بتعريف نفسها على هذا النحو فسنتأكد بان المنهج الذي يشتغل عليه الفنان مصاغ بعناية ومصنوع باتقان, ومؤدى بمهارات عالية, فما هي الممكنات التي تجعلنا نقر, بان أصولها عراقية محضة؟
اعتقد بان الخزين الثقافي والمعرفي, للفنان وذاكرته المتحفزة, جعلته يمد جذوره لتلامس الجذور العميقة في الارض الخصيبة وطينها المتمازج مع مياه دجلة والفرات, وأغلب اللوحات المتحررة من بين يديه تشي بعمليات استلاله مما حفلت به الافاريز النحتية الرافدينية, وحتى الوجوه التي يجسدها, والزخارف التي يطبعها كلها او أغلبها, ما هي الا استلالات من حضارات بين النهرين وبهذه الحالة, فانه يسعى للفن الاصيل والمكتسب للهوية الوطنية, ولكن الأهم من كل ذلك يكمن في دراسة الجدوى, وبالحقيقة, إن مفهوم الجدوى, ينحصر إجمالا في ماهية اللوحة وجوهرها وغرضها الأبعد, وذلك حتماً سيجعلنا نفكر في احتمالات تخليق وحدة الانسجام الكلية أو الموضوعية, وثمة عناصر ثلاثة تتحكم في بنية العمل الفني وهي المواد الخام, بوصفها وسائط لنقل الشعور والتفكر, والتخييل, والأشكال باعتبارها حواضن لوضع الشعور والتفكر والتخييل في وعاء اسمه الشكل, وثالثاً المواضيع الانتقائية, وتعتبر الغاية النهائية للبوح الحسي أو العقلي والإعلان عن الموقف من الاحداث والمتغيرات الذاتية والموضوعية, وهنا يجب التأمل والتوقف, لأن من الصحيح ايلاء أي عنصر من هذه العناصر الثلاثة قيمة مساوية وليس صحيحاً أن نجد غلبة عنصر على آخر, وايلائه أهمية أكثر, وستار كاووش استرشد بهذه القاعدة وحقق مبتغاه من جدوى الرسم وذلك بتخليق وحدة الانسجام على نحو إبداعي وخلاق.
انه مؤمن بمقولة (إن الفن ليس لعباً ولا ترفاً, بل موقف مشرف من الحياة ومتغيراتها)

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ترامب: زيلينسكي غير مستعد للسلام

حكمان عراقيان لقيادة نهائي كأس آسيا للشباب في الصين

إيران تعلن الأحد المقبل أول أيام شهر رمضان

وزير الكهرباء الأسبق: استيراد الغاز من إيران أفضل الخيارات

اليابان تسجل انخفاضا قياسيا في عدد السكان

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

الكشف عن الأسباب والمصائر الغريبة للكاتبات

موسيقى الاحد: عميدة الموسيقيين

النقد الأدبي من النص إلى الشاشة

النوبة الفنيّة أو متلازمة ستاندال

صورة الحياة وتحديات الكتابة من منظور راينر ماريا ريلكه

مقالات ذات صلة

علاقة الوعي بالمعنى والغاية في حياتنا
عام

علاقة الوعي بالمعنى والغاية في حياتنا

ماكس تِغمارك* ترجمة وتقديم: لطفية الدليمي بين كلّ الكلمات التي أعرفُها ليس منْ كلمة واحدة لها القدرة على جعل الزبد يرغو على أفواه زملائي المستثارين بمشاعر متضاربة مثل الكلمة التي أنا على وشك التفوّه...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram