TOP

جريدة المدى > عام > تولستوي فيلسوفاً

تولستوي فيلسوفاً

نشر في: 13 مارس, 2018: 06:20 م

د. ضياء نافع

يدخل اسم تولستوي ضمن مناهج الفلسفة وتاريخها في روسيا , جنباً لجنب مع بقية الفلاسفة الروس والاجانب الكبار , ويشّكل اسم تولستوي فصلاً مهماً وحيوياً في تاريخ الفلسفة الروسية بالنصف الثاني من القرن التاسع عشر , عندما ابتدأت أزمته الروحية (هكذا استقرت هذه التسمية في المصادر الروسية كافة حول تولستوي ) في سبعينيات ذلك القرن , و أدّت به الى التفرّغ للكتابات والتأملات الفلسفية , التي ضمتّها بعدئذ أربعة مجلدات باكملها في مؤلفاته الكاملة , ومن بينها كتابه الشهير – ( الاعتراف) , الذي كتبه في نهاية السبعينيات وظهر مطبوعاً لاول مرة في جنيف عام 1884 , و طبع الكتاب خارج روسيا كان يعني طبعاً , أن تولستوي لم يكن واثقاً من امكانية طبعه ونشره عندئذ داخل روسيا نفسها نتيجة للأفكار الجديدة والجريئة جداً فيه , رغم أن تولستوي كان اسما كبيراً ومشهوراً ومؤثّراً آنذاك , ( لنتذكر كيف ظهرت بعض مؤلفات أدباء روس في أوروبا قبل ظهورها في روسيا مثل بعض نتاجات غيرتسين و باسترناك و سولجينيتسن وأخماتوفا و غيرهم... ).
يؤكد تولستوي في كتابه هذا , إن الاعتراف ضروري فعلاً , وعلى الانسان الإقرار بالخطايا الشخصية له والاعتراف بها, ولكن أمام نفسه فقط , وليس أمام أي جهة أخرى مهما كانت ( وهو جانب مهم من جوانب أخرى كثيرة أثار الكنيسة الارثذوكسية الروسية في حينها وأصبحت بالتالي ضد الكاتب) . لقد طرح تولستوي في كتابه هذا كل طريق بحثه الروحي والاخلاقي منذ مرحلة شبابه , عندما كان ( عربيداً كما هو معروف ! ) وحتى مرحلة نضوجه الفكري والروحي , وقد حاول تولستوي أن يجد إجابات عن كل ما كان يقلق روحه من اسئلة في العلم والفلسفة بشكل تفصيلي لدرجة , إنه قرر ( عدم الذهاب الى الصيد حاملاً الاسلحة كي لا يغريه هذا الاسلوب البسيط للتخلص من الحياة ) , إذ أن تولستوي كانت تراوده حتى فكرة الانتحار للتخلص من عبثية الحياة في تلك المرحلة من عمره , معتبراً أن الادب الذي يمارسه لا قيمة له.
لقد كتب تولستوي في كتابه هذا كل الافكار التي كانت تدور في عقله ووجدانه , ويمكن تلخيص ذلك كله في كلمات محددة , وهي إن الحياة غير ممكنة دون البحث عن معناها وجوهرها , وإن البحث عن المعنى في الحياة يعني الشك في كل شيء فيها , حتى بالنسبة للإيمان , بل انه طرح فكرة أثارت ردود فعل هائلة عندها , وهي , إن الوصول الى الرب يمر عبر الشك به أولا - ( عبر الشك بالرب نحن نصل الى الرب) , وهذا ما قاده في نهاية المطاف الى الابتعاد عن بعض تعاليم الكنيسة , والانفصام عنها , بل و التمرد عليها وعلى تفسيرها لتعاليم الديانة المسيحية وطقوسها و حتى بعض ثوابتها , ولم تصمت الكنيسة طبعاً على أفكار تولستوي المتمردة هذه, وكان رد فعلها قوياً وعنيفاً , إذ إنها اعلنت رفضها المطلق لأفكار تولستوي الفلسفية هذه جملة وتفصيلاً , وهو ما أدّى في نهاية المطاف ( عندما توفي تولستوي ) حتى الى رفض الكنيسة الارثذوكسية دفنه وفق الطقوس المسيحية كما هو معروف .
لقد انعكست أفكار تولستوي الفلسفية في نتاجات عديدة أخرى له طبعا , بل إن بعض الباحثين وجدوا كثيراً من المقاطع الفلسفية في رواياته وقصصه ورسائله , ونود أن نختتم هذه الملاحظات حول تولستوي فيلسوفاً بمقطع من مذكراته , والتي كتبها في مقتبل عمره ( كان عمره آنذاك 27 سنة ليس إلا ) , وهي تبين بلا شك سعة خياله و حجم أفكاره وانطلاقتها المتناهية , والمقطع هو كما يأتي – ( ... الحديث عن القدسية والإيمان أدّى بي الى فكرة عظيمة وكبيرة , وأنا أشعر بأني قادر على تحقيقها وأن أكرّس حياتي لها , والفكرة هذه – هي تأسيس دين جديد , ينسجم مع تطور الإنسانية , ومع دين المسيح , لكنه منقّى ...., دين تطبيقي , لا يمنح الوعود بالنعيم في المستقبل, وإنما يخلق النعيم على الأرض ...) .
لقد عاش تولستوي 82 سنة بأكملها , واستطاع أن يؤسس مفهوم التولستوية العالمي ( انظر مقالتنا بعنوان – تولستوي والتولستوية , ومقالتنا بعنوان – غاندي وتولستوي ) , وترك لنا إرثاً فكرياً ضخماً من النتاجات الابداعية الحيوية , والتي مازالت تتعايش وتتفاعل مع الناس في روسيا وخارجها , ومازالت تحتاج الى تأملاتنا و دراساتنا وبحوثنا لسبر أغوارها والغوص في أعماقها واستنباط الدروس والعبر منها , وملاحظاتنا الوجيزة هذه عن جوانبها الفلسفية خير دليل على ذلك.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

البنك الدولي: 53 مليار دولار تكلفة إعمار غزة خلال 10 سنوات

ارتفاع أسعار صرف الدولار في الأسواق المحلية

منتخب الشباب يتأهل إلى ربع نهائي كأس آسيا

إيران: أي استهداف للمنشآت النووية يعني اشتعال المنطقة بأكملها

3 مباريات جديدة في دوري نجوم العراق

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

موسيقى الاحد:أريش فولفغانغ كورنغولد

صورة سيفو في مرآة الوهايبي

"مُخْتَارَات": <اَلْعِمَارَةُ عِنْدَ "اَلْآخَرِ": تَصْمِيمًا وَتَعْبِيرًا > "لِوِيسْ بَاراغَانْ"

"حماس بوينس آيرس" أول مجموعة شعرية لبورخس

علي عيسى.. قناص اللحظات الإبداعية الهاربة

مقالات ذات صلة

بورخيس،هايزنبرغ وإيمانويل كانت
عام

بورخيس،هايزنبرغ وإيمانويل كانت

أدار الحوار: مارسيلو غلايسر* ترجمة: لطفية الدليمي ما حدودُ قدرتنا المتاحة على فهم العالم؟ هل أنّ أحلامنا ببلوغ معرفة كاملة للواقع تُعدُّ واقعية أمّ أنّ هناك حدوداً قصوى نهائية لما يمكننا بلوغه؟ يتخيّلُ مؤلّف...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram