TOP

جريدة المدى > عام > البحث ثقافياً عن حل

البحث ثقافياً عن حل

نشر في: 24 مارس, 2018: 05:49 م

ياسين طه حافظ
في متابعة لتطور الفكر الإنساني، يمكن رصد مسألة حاضرة في كل مراحله، هذه المسألة هي رفض الهيمنة. ثم دائماً تمرد في البداية ثم مواجهة. وحتى في أحوال القهر والخضوع، لا يستقر الحال كثيراً حتى يبدأ الرفض ثم المواجهة. والبشرية على مدى التاريخ تقدم ضحايا. ولكي لا ينقطع خط الضحايا أو التضحيات نجد نزوعاً لا يغيب لأن تستمر ولأن تبقى، ويمكن أن نجد هذا النزوع الكامن الظاهر في أدبيات الشعوب وتقاليدها في التأبين أو في الاحتفالات، تمجيداً لبطولات أسطورية ولشخصيات مجيدة بينهم، مضحية أو كاسرة لخط الردع. كما نجدها في رسومات تمجد ذلك أو تعبر عنه. كما أن وجود تماثيل للأبطال تقع في هذا الباب. هنا نجد دلالتين، السلطات السياسية في زمنهم لها تسمياتها لهم، فهم خونة أو هم زنادقة أو هم أعداء الأمة أو أعداء الشعب. لكنهم في زمن آخر هم أبطال الحرية أو شهداء الفكر والإصلاح. ودائماً ثمة أساليب لإخضاع ومعاقبة هؤلاء المعادين، كما تسميهم القوى المهيمنة والمضحين الثائرين كما تسميهم الجماعة التي ينتمون لها.
والآن : ما يحكم بين الأثنين ويقرر علمياً لا عاطفياً، بين الرأيين ومن يقرر هذا صحيح وذاك باطل، إذا كان للتمرد طرفان متناقضان ينظران إليه؟ رأي يرى أن للمتمرد رؤية أوضح للمستقبل منطلقاً من إصلاح الحاضر. وفريق يرى أن لما نراه صواباً الآن له مخاطر لاحقة وهم يمنعون تحقق هذا بالحفاظ على الحال التي يطمئنون لها اليوم. وهنا يعترضنا حال يثير سؤالاً : كيف إذاً ننظر إلى، كيف نفسر، خروج الأنبياء عن الأوضاع التي كان يرتضيها الناسن ومقاومة أولئك ورفضهم لهذه الدعوات الجديدة، وهي دعوات يقوم بها أفراد خارجون عن قانون الجماعة ومستقرات أفكارهم؟ النبي أو الرسول فرد وهو في نظر القوى المهيمنة وفي نظر المؤتلفين معها، خارج عن المجموع أو ناشز عن الجماعة، وإنهم إذا تمكنوا منه، فتكوا به. وفي نظرهم إذا فعلوا ذلك، إنما يحققون مصلحة الأمة ويكون هو استحق جزاءه. هم بهذا الفعل يكونون قد أمنوا على نعمهم الحاضرة، وحتى إذا رأوا ما يجعلها مرضية، فهم غير مستعدين لأضاعة مصالحهم الحاضرة مقابل وعود المستقبل غير الحاضرة والمشكوك فيها، وبالنسبة للنبي يرى خلاف هذا، فهو يرى فساداً يجب أصلاحه ويبشر بمستقبل أفضل يرضي الله والناس. أسئلة واستدراك هنا وأسئلة واستدراك هناك ..
وهنا نكون أمام فعل الواقع واجراءاته، فللسلطة أو القوة المهيمنة مصطلحاتها "القانونية" فالحاكم يقتل ويصفي خصومه ومخالفي افكاره وأوامره، باسم الشعب أو الأمة ماذا يعني هذا؟ يعني صناعة جلبان تستّري من المجموع الخاضع للتخفي به أو ليحملوا عنه جريرته، هذا فعل أخر للتسلط، فضلاً عن الاستعباد.
في تساؤل آخر، هل الفرد محكوم بالقوة المهيمنة، السلطة، أم هو محكوم بمؤثرات مجتمعة وأعرافه ومتطلبات السلوك والاعراف؟ وهنا يكون الفرد قد أخضع أساساً من ناس محيطه ليكون من ثم خاضعاً للحاكم المتسلط، بتفسير ((تسوغي)) إن أفكار الجماعة وتاريخهم الاجتماعي صنع لهم مستقرات حياة أو صنع عبوديتهم وخضوعهم ... فالخضوع هنا يتماشى مع نوع من الرضا.
يقابل هذا حكم آخر يرى أن تمرد الفرد عمل جليل لأنه تمرد على تاريخ خضوعات وعلى قيم لسنا مسؤولين عنها وعلى سلسلة مفاهيم طالت الحاكم أو السلطة ضمناً.
وصولاً إلى هذا الحد، حضرت الأفكار الحديثة التي لا تقتنع بالطبقات قناعة الماركسيين بها، ولا بالمجتمع كلاً، فالأفراد في رأيهم ذوات ممتحنة ومجموعهم هو مجموع ذوات كل وعذابه أو محنته الخاصة أو خضوعاته .. الخلاف واضح بين الفكر الليبرالي والتركيز على الذات وانتفاء حريتها وبين الفكر الماركسي الذي يعتمد الواقعية السائدة وعلى ضرورة حرية الجماعة ليتحرر الفرد .. ينقلنا هذا إلى إشكال طرفه الأول سائب ومشتت وغير ملموس وطرفه الثاني واقع يمكن التحكم فيه وإعادة تنظيمه باتجاه مصلحة الجماعة.
العبثيون والحداثيون عموماً يرون في هذا منظومة إخضاعات جديدة غير ناسين أن الفرد محكوم بالجماعة لكنهم غير مبالين كثيراً بتحول الجماعة. تركيزهم على الفرد يبعدهم قليلاً عن الاقرار بأهمية الاصلاحات الجماعية، بل يرى بعضهم إن الجماعة تصادر الكثير من حرياتهم وهم مستلبون منها.
هذا الفكر نجده كثيراً وواضحاً في النتاجات الأدبية الغربية وفي نتاجات المنفيين والهاربين من أنظمة بلدانهم، فنجد مختلفاً أو " بطلاً"، بين المقاتلين أو بين الثوار أو بين الاكاديميين او في فريق عمل أو لعب أو بين البحارة على باخرة وسط المحيط. في هذا تعبير عن تلك القناعة التي اعتمدت للأسف سلاحاً سياسياً ضد الحركات الاجتماعية الداعية لحركة الشعوب وعموم حركات التحرر. استخدم هذا السلاح كثيراً، ومولته مؤسسات، في الحرب الباردة وما تزال بقاياه، وما تزال الآداب والفنون التي تعبر عنه واسعة الانتشار وهي المفضلة في الدراسات النقدية.
حتى نبقى موضوعيين ،هذا الفكر ليس جديداً، هو أصيل في آداب العالم وفنونه. ومحنة جلجامش محنة فرد وسط جماعة لا مبالية، وفي الملاحم والحكاية من هذا كثير، كما أن الأدعاء بانها بعيدة عن أية ايديولوجية، هو أدعاء غير حقيقي، لأن ترسيخها وتاكيد الاهتمام بها وتوظيفها جعلت منها عملياً ايديولوجية تفكير وعمل، وهذا التفكير استدعى أمراً آخر له صلة بالأصل يعودون له، وهو التشكيك بجدوى هذه الثورات والتمردات والاصلاحات الجماعية، وفي هذا مرة أخرى، ترسيخ غير مباشر لهيمنة السلطة، أي نوع من السلطات، فالفرد سيظل ممتحناً وبلا حل.
وحجة أولاء، الفرديين، هي هل تملك الماركسية أو أية ايديولوجية، مزامنة لها، تصوراً واضحاً في تشابك التصورات والمصالح والتغيرات السريعة المتوالية في البناء الاجتماعي كما في المطالب الذاتية التي لا يمكن أن يكون لها حد أو استقرار؟
ولكن هل لنا، بديل عن الفرض، غير المدى الأخلاقي واحترام الأفراد والجماعات على أساس من ذلك؟ لكن، مرة أخرى، أية مبادئ أو تصورات أخلاقية يمكن الركون إليها ولا نظلم أو نُظلم، ومن يصوننا من أن نُصادَر مرة أخرى، وأن في جانب من حياتنا؟ وما الضامن لذلك؟ أقول : من يضمن ألا يتحول العرف الأخلاقي إلى هيمنة أو تسلط ونعود إلى التساؤل عن حل؟ للأسف أننا سنضطر للرضا بأيديولوجية واقعية ترتكز أساساً على متطلبات العيش وأمنه وتنحي فوضى التصورات، ولا أظن هذا بعدُ خياراً!

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

البنك الدولي: 53 مليار دولار تكلفة إعمار غزة خلال 10 سنوات

ارتفاع أسعار صرف الدولار في الأسواق المحلية

منتخب الشباب يتأهل إلى ربع نهائي كأس آسيا

إيران: أي استهداف للمنشآت النووية يعني اشتعال المنطقة بأكملها

3 مباريات جديدة في دوري نجوم العراق

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

موسيقى الاحد:أريش فولفغانغ كورنغولد

صورة سيفو في مرآة الوهايبي

"مُخْتَارَات": <اَلْعِمَارَةُ عِنْدَ "اَلْآخَرِ": تَصْمِيمًا وَتَعْبِيرًا > "لِوِيسْ بَاراغَانْ"

"حماس بوينس آيرس" أول مجموعة شعرية لبورخس

علي عيسى.. قناص اللحظات الإبداعية الهاربة

مقالات ذات صلة

بورخيس،هايزنبرغ وإيمانويل كانت
عام

بورخيس،هايزنبرغ وإيمانويل كانت

أدار الحوار: مارسيلو غلايسر* ترجمة: لطفية الدليمي ما حدودُ قدرتنا المتاحة على فهم العالم؟ هل أنّ أحلامنا ببلوغ معرفة كاملة للواقع تُعدُّ واقعية أمّ أنّ هناك حدوداً قصوى نهائية لما يمكننا بلوغه؟ يتخيّلُ مؤلّف...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram