لطفية الدليمي
تريثوا قليلاً ، هانحن نتجه نحو نهايات العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين ، لاتتعجلوا عبور مفترق الطرق ، التفتوا برهة نحو ماتداعى وراءكم وتأملوا سنوات الدم التي فاضت على خارطة العالم وأغرقت حياتنا : مشاريع التحديث والأحلام وفسحات الحرية وبعض مذاق الليبرالية ، ولم تترك على ذاكراتنا وأرواحنا سوى الرماد وأصداء المراثي .
تريثوا، وحدقوا في المرايا قليلا ، فماذا سترون ؟؟ ستجدون أن الإنسانية تراجعت ألف عام وراء ظهوركم وبدت فجة مجردة من أردية الأفكار والفلسفات العظمى ، حدقوا قليلاً في المرايا وسوف تتساءلون بشيء من الجزع : أين رواء المعنى في وجوهكم ؟؟ أين ألق التوقعات ؟؟ أين ظلال الأمل ؟؟ لاشيء ، لاشيء تبقى من كل ذلك ، فقد تجمدت الملامح على تعابير الحيف وخددت غضون الألم والكراهية معظم الوجوه، واستمكن الخوف في الحدقات الكسيرة، وبدل الابتسامات المضيئة زُمت الشفاه وانعقدت الحواجب في تقطيبة غضب ، قد ينكر بعضكم مايرى ويهمس لنفسه : كلا ، هذا ليس وجهي وتلك ليست ملامحي ، ويحاول أن يبتسم للمرايا ، فيتشنج وجهه وتلتوي شفتاه ، فهذا عصر الرعب الذي اجتاح كل شيء وكل البلاد ، إنه عصر الدم والخراب الذي مسخ الوجوه واغتال الفكرة النيرة و جمّد الدم في العروق ..
الحقيقة التي ننكرها جميعا أننا غادرنا بسالة العقود الماضيات من القرن الفائت و تراخت إرادتنا في ساحة المواجهة مع الأضداد ، وترددنا برهة ثم استسلمنا للذئب ولم نتحسب للضباع البشرية التي التهمت الزمن وسرقت ألف عام من انسانيتنا التي شيدنا قلاعها المضيئة طوال قرون التنوير وصناعة الأمل، تحولت الكائنات الجميلة المفكرة ومبدعة الفنون ومبتكرة الاختراعات العظيمة الى مخلوقات محبطة لاحول لها ولاقوة ، فقد حوصرت في أقفاص العقائد المتحجرة وحبست داخل أسوار التحريم ومنهجية العنف التي يديرها الحاكمون والكهنة ومريدوهم والارهاب .
أجل ، لنتأمل وجوهنا ونتعرف على صفات الإنسان المهزوم فيها لعلنا نستعيد بعض صفاتنا ، لعلنا نمتلك القوة التي تسندنا لنستدل على إجابات لتساؤلات العقل ، دعونا نحاول استنهاض عزيمة الروح ، وتعزيز همة القلب ، ونوقظ نشوة العقل بالأفكار ، ونحاول إطلاق الاسئلة الكبرى على أنفسنا أول الأمر :
- ما الذي نحن فيه ؟ وعلام وصلنا الى هذه البُرهة الموصدة ؟
دعونا نسترجع أنفسنا من ارتهان الايديولوجيات وعسف الأنظمة وتعصب الأحزاب القادمة من عتمة المغاور ، دعونا نستدعي انسانيتنا المهدورة بتجربة عشق أو رقصة أو موسيقى أو عناق طفل أو تأمل شجرة مزهرة ، أو لنتفكر قليلاً في معنى الوجود ومصير البشر ، فذلك كله خليق بأن يعيننا على تخطي استسلامنا . دعونا نحلم قليلا بأن نسترجع أعمارنا وأوطاننا من خاطفيها ؛ فلا خشية من هذا ولن يكلفنا اعتناق الحلم أكثر من تخطي بؤسنا والخروج من يأس خنوعنا لشريعة الذئب الى رحابة تخيل الخلاص .
لنضع أصابعنا بجرأة على مشكلاتنا ونكشطها كما نكشط قشرة الجرح بقوة ، لا ندغدغها ونترنم بالمراثي وننوح على الخسران ؛ بل نكشف الجرح و نفصد الدم المتخثر فيه ونعالجه بالمضادات التي تضمن الشفاء : ايقاظ الحس بالكرامة الانسانية المهدورة ووعي الزمن ؛ ففي لحظة اليقظة ستضاء سبلنا برغبة الخلاص ونهتدي الى استعادة جلالنا الانساني المهدور.
لقد تواطأنا جميعنا مع الذئب ، ويسّرنا له اقتناصنا عندما لم نقاومه بل تركنا رائحة مخاوفنا تسبقنا إليه ؛ فانتهينا كائنات مهدورة الدم .