نجم والي
إلى شروق العبايجي
ليلة الجمعة الماضية وفي جلسة أصدقاء حميمة في مطعم بغدادي جميل، حيث دار الحديث عن أماكن الطفولة، تساءلت الصديقة شروق العبايجي، هل الحنين لهذه الأماكن هو قدر لا مفر منه؟
طياً الجواب كما وعدته بها.
قبل أيام (وقبل جلستنا الحميمة تلك) سمعت بالصدفة مرة أخرى، وبعد سنوات طويلة، أغنية داليدا "الدنيا الكبيرة، وبلادها الكبيرة...لفيت، لفيت...ولما ناداني حبي الأولاني، سبت كله وجيت..."حتى نهاية المقطع الذي لا يحضرني الآن. لم تذكرني أغنية المغنية الإيطالية الأصل، المصرية المولد، والتي ترجع إلى أماكن طفولتها عندما تصبح على مشارف نهاية الأربعين من عمرها، بالبلاد التي ظننت يوماً أنني تركتها خلفي إلى الأبد، إنما ذكرتني أيضاً بالفيلم الإيطالي الجميل "سينما الفردوس"، وحملتني على استعارته من محل الفيديو القريب من البيت في اليوم الثاني. لم أنتبه لسلوكي، إلا عندما إنتهيت من مشاهدة الفلم، لأعرف لماذا حملني الحنين لرؤية فلم المخرج الإيطالي جوسيبه تورانتوره، بالذات، وانني لن أمل منه حتى لو شاهدته للمرة الألف. الفلم الجميل هذا والذي ينتمي إلى تلك الأفلام الخاصة التي تلمس نياط القلب، يحكي قصة رجل يعود بعد غياب دام ثلاثين سنة، إلى قريته، مكان طفولته. كان يخاف أن تتغلب عليه الإنطباعات، ويقع فريسة إنفعالاته، لكن لا يحدث ما توقعه. نعم، إن جوانحه لم ترتج إلا قليلاً، فهو يتذكر الصبي الصغير الذي كانه ذات يوم، لكن، وذلك هو الإكتشاف العظيم الذي يتوصل إليه، يدرك انه إنتهى من الماضي. ان الحاضر الذي يعيشه، هو أهم بالنسبة إليه، رغم ان هذا الحاضر لم ينشأ ويتطور إلى الصورة الحاضرة التي عليها، بدون الوجود السابق لذلك الماضي الذي عاشه الصبي الصغير في تلك القرية الصغيرة الإيطالية، في صقلية.
هكذا، لكي ينمو المرء وينضج، عليه ان يترك الطفولة بشكل جذري خلفه. وكلما إبتعد المرء مدة أطول عن الأماكن الأولى، كلما إستطاع الرجوع لتلك الأماكن مرة أخرى، دون ان يصاحبه الألم الممزق ودون ان يحرقه ذلك الألم. ولكن إذا لم يستطع المرء الصبر وعاد إليها مبكراً ــ قبل أن ينتهي من ذلك الماضي ـ فإن الجراح القديمة ستؤلمه بالتأكيد، كما يحصل عند زيارة المرء المقبرة، والوقوف أمام قبر لشخص حبيب مات قبل فترة وجيزة، الوقوف بحزن مصحوباً بمرارة الخسارة. كل شخص، رجع ذات مرة إلى الأماكن القديمة، وخاصة تلك الأماكن التي كان فيها سعيداً ذات مرة، يعرف هذا الشعور ـ وهل هناك شعور أجمل يستحوذ على المرء ويلح عليه، أجمل من شعور الطفولة ـ، العديد من الأفلام والروايات والقصائد تعيش وتغرف من ذلك الشعور، والتي تدهش في وصفها ذلك الوضع، تجعلنا نغيب، نطير مع العوالم التي تصفها او العوالم التي تستفزها فينا، لا يهم مدى السنوات التي مرت على ذكرى مغادرة المكان الأول. "لفيت لفيت..ألخ"، هنا تبدأ سلسلة القصة: هنا عشت كطفل! هنا وقعت في الحب! هنا، فوق هذه المصطبة، جلست مرات عديدة وإلى جانبي صديقتي أو صديقي، والآن يجلس أحدهم مع شريك حياته في المكان نفسه، وحبيبتي او حبيبي تزوج او مات او ماتت او رحلت او رحل...وفجأة تنزل الدموع. انه أمر مؤلم، الا نعثر ثانية على أماكن الذكريات: البيت الذي نشأت فيه، تركه أهلي، وتلك الغرفة التي كانت لي عند السطح، لا أعرف من يسكنها، مدرستي التي واظبت على الدوام فيها بشكل محموم يومياً، تحولت إلى خرابة، اما المستوصف الصحي المدرسي، فقد أزيل من الخارطة لم يعد هناك، لكي لا أتحدث عن حانة نادي العمال المجاورة، وحانات اخرى مثيلة، حانة نادي ذوي المهن الصحية، وحانة نادي المعلمين، ونادي الموظفين. هكذا لم يعد هناك ما له علاقة حتى بالطفولة، حتى النخيل، سوته بلدوزرات جيش الدولة العراقية مع الأرض؛ بل حتى إسم البلاد التي عشت فيها أربعة وعشرين عاماً، تغير وأصبح مذكراً: "دولة العراق"، هل يمكن تخيل الحيف الذي أُلحق بذاكرة الملايين، بالتأكيد مع كل نخلة إرتبطت ذاكرة شخص ما! السينما التي في ظلامها قبلت أمرأة للمرة الأولى وفي العمق صدحت موسيقى "ميري دينيا زامان كه.." وغيرها من موسيقى الأفلام الهندية ـ لم تعد هناك، على مكانها إرتفع بناء علوة لبيع الخشب.
رغم كل شئ، يثير إستغرابي الشعور القوي عند البعض عندما يعودون لرؤية المكان ذاته بعد زمن طويل، فأنا لا أعتقد أنني سأشعر بالشعور ذاك، ليس لأن مشاعري تحجرت مثل الكثيرين الذين يعيشون بعيداً عن أماكن طفولتهم، إنما لأن الأماكن ذاتها لم تعد موجودة، انها تغيرت وتتغير كل يوم.
هكذا، كلما عدت إلى مدينة طفولتي، كلما تذكرت بعض الذين عادوا إلى مدنهم بعد سنوات، يحضرون في ذاكرتي بقوة: توماس مان لم يجد بعد نهاية الحرب العالمية الثانية إلا القليل من مدينته، ترافيمونده، الواقعة إلى الشمال من المانيا، مثله مثل مواطنه والحائز على النوبل مثله، هاينريش بول الذي لم يعثر على مدينة صباه "كولن"، الواقعة في وسط ألمانيا.
لا نعثر على شيء عند عودتنا إلى المكان نفسه. هكذا تردد أغنية داليدا، التي أتذكر نهايتها الآن" ولما ناداني حبي الأولاني..سبت كله وجيت..وفي حضنو إرتميت.." في النهاية توجد المدينة فقط في قلوبنا. وهي تنتمي إلى ذلك المكان البعيد أيضاً، المكان الذي ينبض فيه القلب الحنون، بلد القلب الحزين!