لطفية الدليمي
بابا علماء الرياضيات البريطانيين : هذا هو مايُلقّب به السير (مايكل عطية) المتحدّر من أصول عربية (من جهة أبيه) والمعروف بإنجازاته الرياضياتية المبهرة التي أهّلته للحصول على أهمّ جائزتين عالميتين في حقل الرياضيات : جائزة فيلدز وجائزة أبل ؛ فقد ساهم الرجل بمساهمات ثورية في ميدان إيجاد أرضية مشتركة بين الرياضيات والفيزياء سعياً وراء نظرية المجال الموحّد الكبرى .
قرأتُ مؤخراً حواراً موسّعاً معه في إحدى المواقع الالكترونية المهمّة ، وكان من جملة ماإستوقفني ملاحظة ذكر فيها أنّه عندما بلغ مرحلة الدراسة الجامعية راح يقلّب الأمور فيما عساه يمكن أن يصلح له كمهنة مستقبلية : كان أبوه المزهوّ بتعليمه الاكسفوردي وثقافته الأرستقراطية يريد له دراسة الطب أو القانون في أكسفورد أو كامبردج ؛ لكنه كان يخطّط لغير ماكان يريد له أبوه . يروي السير (مايكل عطية) في ثنايا حواره الجميل كيف إختار الرياضيات لتكون ميداناً لدراسته الجامعية المقبلة لكون دراستها لاتستلزم سوى الأفكار والشغف وحزمة من الأوراق والأقلام فحسب ، ويؤكّد إنه أراد فرعاً معرفياً يتيح له التعايش مع أفكاره طول الوقت وليس بعضه فحسب ، ومن الجميل أنه يؤكّد على دور الأحلام في تشكيل العديد من أفكاره الرياضياتية المهمّة ؛ فهو يرى أنّ الأحلام تتيح للعقل التحرّر من قيود المحدّدات الفيزيائية البيئية والإنطلاق نحو عوالم حرّة غير مقيّدة .
ليست الرياضيات نسيج وحدها في كونها أفكاراً يمكن للمرء أن يتعايش معها في كلّ أطوار حياته وفي صحوه ومنامه ؛ بل ثمة الكثير من الإشتغالات المعرفية الأخرى : الفيزياء والفلسفة والأدب والفن ، والحقّ أنّ العديد ممّن إمتلكوا قدرة ثورية طاغية على الإتيان بالتغيير إنّما كانوا في معظمهم فيزيائيين ورياضياتيين وفلاسفة وأدباء وفنانين ، وليس عسيراً التحقق من صدقية هذه الرؤية عبر الرجوع إلى حيثيات التأريخ البعيدة منها والقريبة على حدّ سواء .
يمتلك الأشخاص المخلصون لأفكارهم والمتعايشون معها بتناغم وانسجام سمتين إثنتين كفيلتين بجعلهم أشخاصاً رؤيويين ذوي بصيرة ثورية نزّاعة للتغيير الإيجابي الذي يحدِثُ فرقاُ نوعياً كبيراً يرقى إلى مصاف الإنعطافات التأريخية ، وتلك السمتان هما : الشغف والشجاعة . أما الشغف فهو بمثابة كنز لانهائي لايفتأ يتجدّد معينه من القدرة الحركية الدافعة لإستكشاف ممكنات التغيير وآفاقه المحتملة ، وأمّا الشجاعة فهي المنبع الذي يمنح المرء الثقة في مواصلة طريقه بكلّ عزم حتى لو بدا للآخرين أنّ عوامل الفشل والإحباط تغلب عوامل النجاح والأمل .
ثمّة في حوار السير (مايكل عطية) مصداق مؤكّد لهاتين الخصيصتين ؛ إذ يقول إنّه بعد أن تجاوز الثمانين راح يفكّر في جوانب تقنية لطالما تجاهلها سواه (وهو يقصد على وجه التحديد إدخال تأثير الجاذبية في الفيزياء دون الذرية) ، ثمّ يضيف بأنّه شغف بهذه المسألة منذ أزمان بعيدة وقد جاء الوقت ليختبر رؤية شغفه متحققاً على أرض الواقع ، ثمّ يضيف لاحقاً بأنّ الأمر يستلزم قدراً غير عادي من الشجاعة لأنّ الشباب في العادة يحجمون عن تناول الموضوعات البحثية البعيدة عن (الموضات) السائدة تحسّباً لفقدان مصادر تمويلهم ؛ لكنه يردف قائلاً : لاشيء أخافه اليوم ؛ فقد حصلت على أهم الجوائز في ميداني وبلغت سنّاً لم أعد أخشى فيه التصريح بما أحبّ .
ليتنا نملك بعض شغف وشجاعة مايكل عطية إذن لكنّا غيّرنا الكثير!!