ستار كاووش
إنه أبونا جميعاً، هكذا قالها بيكاسو عندما سُئِلَ عن الفنان بول سيزان وتأثيره على الفن الحديث. وبعد عشرات السنين من هذه المقولة، يقف (فيليب) حفيد سيزان أمام الكاميرات ليستلهم هذه الكلمات ويستعيدها قائلاً ( إن سيزان هو أب الفن الحديث) حيث يساهم الحفيد في الفيلم الوثائقي الذي تم انتاجه هذه الأيام، بعنوان (سيزان ... صورة حياة) ليصاحب معرض سيزان الذي سيتنقل بين باريس ولندن ونيويورك. فيليب كان يتحدث عن جده، بينما تستقر عيناه على بورتريت جدته (هورتنس ) الذي يُعَلَّقُ على أحد جدران متحف (دي أورسيه) بثوبها الأحمر ووجهها الشاحب ونظرتها الشاردة، حيث إستبدل سيزان هنا حرارة العاطفة بمعالجة المساحات والكتل بطريقة مؤثرة بصرياً، وإهتم بالبناء أكثر من المشاعر، وهذا عنصر أساسي إتكأت عليه التكعيبية فيما بعد.
والفيلم ينقلنا الى ما وراء المعرض، حيث الأماكن التي عاش فيها سيزان ورسم لوحاته الخالدة، ويكشف كذلك عن التأثير الكبير لأعماله، والذي وصل حتى الى التجريديين. وكذلك يقدم الفيلم الكثير من المراسلات التي كتبها سيزان شخصياً. إنه الفيلم الثاني عن هذا الفنان خلال سنة واحدة، إذ سبقه فيلم روائي بعنوان (سيزان وأنا) يتناول حياته مع الروائي العظيم أميل زولا، الذي كتب رواية جعل أحد أبطالها سيزان نفسه، لكنها لم ترق لهذا الرسام المهموم بالتغيير،مما حدا به لمقاطعة صديقه الكاتب.
نعم إنه بول سيزان الذي رافق الانطباعيين في مغامراتهم اللونية وفتح بصحبتهم منافذ الحرية أمام كل الفنانين الذين جاءوا بعدهم. لكنه كما ترك اختصاصه في دراسة القانون، وسار بخطاه نحو الفن، لم يمكث مع أصدقائه الأنطباعيين كثيراً، بل تخلى عن الطريقة التي يرسمون بها، وغيَّرَ مساره ليخرج عن الطريق الانطباعي ويشكل لوَحْدِهِ ساحة مستديرة تؤدي الى عدة طرق واتجاهات فنية.
تكمن أهمية سيزان في الحلول الجديدة التي فكر بها من خلال لمساته القصيرة المقتضبة وبناءه للأشكال التي يرسمها،وبذلك غَيَّرَ الطريقة التي ننظر بها الى الأشياء التي حولنا، ففي لوحاته نراه يُقَرِّبُ التفاصيل البعيدة ويبعد القريبة، ولم يهتم بالمنظور التقليدي، بل خلق منظوراً خاصاً به، فحين ننظر الى لوحاته نرى بعض الأشكال من جهتها الأمامية وبعضها الآخر تبدو وكأننا ننظر اليها من الجانب أو الأعلى، وخير مثال على ذلك هو سلسلة لوحاته عن المستحمات، حيث تتداخل الأشكال ويتسطح المنظور وتغيب الملامح وتتقوس الأشجار بشكل غير تقليدي وكأنها تريد أن تعانق بعضها وهي تمتزج مع لون السماء. وكانت هذه اللوحات هي المفتاح الذي سار عليه بيكاسو وهو يرسم لوحته الشهيرة آنسات أفنيون التي أعتبرها المؤرخون أول لوحة تكعيبية متكاملة وإيذاناً بظهور هذه المدرسة بمساهمة الفنان جورج براك الذي قال (بيكاسو وأنا صنعنا التكعيبية مثل رجلان يتسلقان جبل بحبل واحد). وهما بالتأكيد يدينان بالفضل لسيزان الذي وضع ملامحها الاولى.
بعد وفاة سيزان صدرت مئات الكتب عنه وعن حياته وفنه وكتبت عنه الدراسات وانتجت أفلام كثيرة. حَدَثَ ذلك لأن بلداً مثل فرنسا يحب وَيُقَدِّرَ فنانيه. يفرك أي صدأ يلوح أسمائهم، ويزيل الغبار العابر بين الحدائق كي لا يستقر فوق رؤوس تماثيلهم.
لا أتمنى فقط أن تعرض مثل هذه الأفلام والمعارض في بلداننا العربية، لكني أتأمل أيضاً أن يأتي الوقت الذي تنتج فيه مثل هذه الافلام ويقام ما يشبه هذه المعارض لفنانينا الكبار. لكن كيف يحصل ذلك ومبدعونا طي النسيان، وأعظم عباقرة إبداعنا لم تصدر عن حياتهم أية كتب تليق بمكانتهم؟ سيزان الذي فَتَحَ طريقاً جديداً قاد به الفن نحو الحداثة، كافأته فرنسا وَسَمَّتْ عدة شوارع بـإسمه. مقابل ذلك لم نَرَ عندنا جادة واحدة -حتى لو كانت صغيرة- كُتِبَ على يافطتها أسم رسام عربي واحد.