فوزي كريم
في الثالث من تشرين الأول توفي الشاعر الأمريكي جون آشْبري John Ashbery، عن تسعين عاماً. توفي عن وفرة في الانتاج الشعري، وشهرة بالغة الاتساع والتأثير، في الغرب. حين جئتُ لندن كانت شهرته في مطلع الثمانينيات في أول انطلاقتها، ولقد سعيت إلى قراءته فلم أُحسنها. حين توفّرتُ على انكليزية أفضل، ظل آشبري مستعصياً. قرأتُ عنه كتاباُ نقدياً يقارن قصيدته باللوحة التكعيبية، التي تهشم الشكل إلى شظايا، ثم تحاول إعادة تركيبه على هوى البصر الفني. لمْ أقنع أن "هوى البصر الفني"، الذي يصلح مع اللوحة التشكيلية، يمكن أن يصلح لـ"هوى المخيلة" التي تلاحق الكلمات. لأن الكلمات تنطوي على دلالة. ولذلك حين كنت أُعاود قراءة قصائد الشاعر أجدني أواجَه باستحالة التقاط سياق مُغرٍ بالمواصلة. وكنتُ، وما زلت، لحسن الحظ أو سوئه، لا تقنعني صفة الجديد والبكوري، معياراً لجودة العمل الشعري. كنتُ أعتمد فيه على ما يقودني، بيسر أو مشقة، إلى دلالات لا تنفد طياتها. وبالرغم من أن "آشبري" لم يمنحني هذا القياد، لم أكن أجرؤ إلا على الشك في قدراتي كقارئ للطليعي الغربي.
مع السنوات صرت أطّلع على عروض نقدية كُتبت عن نتاج "آشبري"، ووجدتها ترى فيها ما أرى، الأمر الذي منحني شيئاً من الشجاعة. إن موجة "مابعد الحداثة" ولّدت تيارات في الشعر الغربي، الفرنسي خاصة، ذات قناعات ترى أن "الدلالة" الشعرية كلمة مبتذلة. وظهرت بفعل هذه القناعة موجة "شعر اللغة"، و"شعر الصوت"، وما يحيطهما من تفرعات. ومما عزز شجاعتي في مواجهة النفس، أني صرت أطّلع على ما يُصدره "سحَرةُ الشعر العربي" و" سحَرةُ النقد العربي" من مقالات وكتب إيهامية عن ضرورة تجاوز العقل، ومعه "الدلالة" وكل ما يتصل بالمعنى. ولعلك تتعرف على فساد "الوهم والإيهام" من مقلديه، أكثر من صانعيه. وهذا ما تعرفته دون مشقة.
ولكن "جون آشبري" لم يكن نموذجاً خالصاً لهذا "الوهم والإيهام". فنتاجه الشعري يتمتع بعذوبة في اللغة، والصورة، والمفارقات المولَّدة منهما، بطريقة محببة تميزه عن كثيرين من مجايليه ومقلديه. هذه عبارة لأحد النقاد في رصد لغته الشعرية: " همس متكتّم، غير مفهوم وذكي في الوقت ذاته، مع إيقاع نبض غريب يتذبذب مثل موجة بين ذُرى وضوح حاد وجفاف غموض لا رواء فيه." "إن من السهل أن تتبين ما توفره قصيدته من مشاعر،" يقول ناقد آخر، "ولكن من العسير أن تفهم ما يمكن أن توفره من معانٍ. وآشبري يستمتع لهذا اللايقين."
ولكني أرى أن "الاستمتاع باللايقين من الدلالة" هو ما يتمتع به كل الشاعر. وما من قصيدة جيدة تُفضي إلى معنى واحد محدد، وكأنه معنى جاهز قبل الكتابة. الأمر هنا يختلف مع قصيدة "آشبري"، التي تبدو لكثير من النقاد مُغلقة، مع كل شفافية لغتها وصوتها المُطرب. هذه عينة من شعره:
" لقد سبق أن أخبرتك كمْ يُخيفني هذا،/ على أننا معاً يمكن أن نتعامل معه،/ وهو مكان شأن كثير من الأمكنة/ صالح لأن أفتح دهشتي الأخيرة: أنت، في ذهابك،/ حييّاً، غير مبال، ولكن تحت سماء تظللك طوال ما يحلو لها من أيام./ هذا ما عنيته بقولي "نتعامل معه سوية"، وكما قلتها،/ كلا السطح وما ينطوي عليه..." الخ.
ثمة طريقة واحدة لقراءة شعره، يقترح "آشبري" في إحدى حواراته، هي في أن تفكر فيه كعمل موسيقي. "الكلمات في قرابتها الواحدة من الأخرى تتلبس معان أخرى .. ما تسمعه من كلمات في لحظة معينة هو أشبه بانكسارات (الشيء في الماء) لما قبلها ولما بعدها." واضح أن هذا الكلام ذو طبيعة مجازية، لا حدود للتأويل فيه، وبالتالي لا يُعتمد عليه.
بدأتْ شهرة "آشبري" وسط سبعينيات القرن الماضي، حين بدأ يحصل على جوائز الشعر الأمريكية المهمة. اعتُبر في منتصف العمر من "مدرسة نيويورك" الشعرية، التي تأثرت عميقاً بالفن التشكيلي. عاش سنوات عشرة في باريس، وترجم الكثير من الشعر الفرنسي. له 28 مجموعة شعرية.