زينب المشاط

لا حاجة لأن نسبق المخاض بوهم ولادة، ونبني عليها آمالاً يُكللها حلم جميل،تخيلات عظيمة فالواقع غالباً ما يضمر لنا عكس ما نتوقعه...
من كان يظن أن مخاض الثورات سينتهي بولادة طبيعية سهلة سرعان ما تقف بعدها البلاد على قدم وساق، سيُفاجأ بعسرها، وقد تحتاج الى عملية قيصرية، ومن الممكن أن تنتج عن مولود مشوّه، وقد تخسر الأرض في ولادتها هذه رحمها.....
ويبدو إن ثورتنا التي حسبها البعض استقلالا كانت سبباً بعقم أبدي....

الثورة،خلقها، اشتعالها، تفجيرها، وأشياء من تداعياتها، وبعض لعناتها جميعها سنقرأ عنها في رواية"المخاض" الصادرة عن مؤسسة المدى للإعلام والثقافة والفنون ،لكاتبها غائب طعمة فرمان
لم أكن اقرأ كتاباً، ولا أترقب أحداثا وأفعالا يقوم بها بطل الرواية، ولا حتى في صراعاته، لم أكن أضع الكتاب بصفحاته وحروفه أمام وجهي،بل كنت أضع مرآةً، تلك التي استطاع من خلالها فرمان أن يعكس صورة البلاد ويعكس صورة كل فرد على هذه الارض،واقصد هنا كل فرد عراقي، نعم فمن نحن؟وماذا نريد ؟ لماذا حين نجد السلام نلهث خلف الدم،وحين نسفك الدماء نتوجه مسرعين لغلق صنبور الدماء هذا؟ نشكو كثرة الحروب والتضحيات وما أن ننعم بهدوء وطمأنينة نلوذ خلف حرب أو نحاول اختلاق ما يُقلق طمأنينتنا هذه..
من يقرأ هذا الكتاب سيلامس الشخصية العراقية من خارج الدائرة، سيلاحظ واقعنا المعجون بالفوضى، وأُناسنا المتشاطرون والهموم ابتساماتهم، والضائعون فكراً وروحاً، وسيلعنون الثورات ليس لسوئها، بل بسبب تلك الايادي الخفية التي تُحرّك الدمى، وسنجد أن السلطة العليا المتحكمة بواقعنا ليست تلك الشخصيات التي ترتدي بدلات vip وتظهر على شاشات التلفاز مُراعية البروتوكولات السياسية والاجتماعية، بل هم أناس مجهولون يحركون كل شيء من حولنا عن بُعد ولا يدفع الثمن سوانا.
الرواية أيضاً تتطرق للواقع الاجتماعي العراقي، من خلال التطرق بشكل سريع لبعض الموضوعات الاجتماعية ولكن بشكل كثيف، كالمرأة وسلوكياتها وكيف يفكر بها العقل الذكوري، كطبيعة الفرد العراقي، طقوسه ورغباته، وواقع المجتمع في فترة نهاية الخمسينيات، وغيرها...
إلا أن هنالك أمرين مميزين تحدث عنهما الكاتب، وهما "الخمرة" وثمالتها، والسيارات وقيادتها وسائقو التكسي، ورغم أن الخمرة لم تكُن بطلة الرواية إلا أنها شاطرت بطلها همومه، وكان يصفها الكاتب أحياناً بأنها وسيلة انتحار، من خلال ذكره "أن من يشرب حتى السُكرة هو شخص راغب بمغادرة الحياة وأن نهايته ستكون قريبة مُنتحراً بها."، إلا انه أكد على حاجة الفرد لها، من خلال ذكره أن الله حين خلقنا نسي أن يخلق قطع غيارات لأعضائنا، وأرواحنا التي قد تتعرض خلال الزمن الى التلف والتعب، وما الخمر سوى هذه المادة التي تمنع الاحتكاك بيننا وبين واقعنا لذا فهي مهمة ونحن بحاجة لها في الكثير من الأوقات...
أما السيارات والتي لخصها غائب فرمان بشخصية "نوري " السائق والذي يملك اجازة سوق 6 بغداد أي إنه من اوائل الاشخاص الذين قادوا السيارات في مدينة بغداد، وكان نوري يعمل سائق تكسي، إلا أن الكاتب هنا ينقل لنا صورة أخرى عن مهنة سائق التكسي التي لم يكن بطلها "نوري " مجبراً عليها بل نجده يعشقها كرجل شغوف بإمرأة، في الواقع سنرى الوجه الجميل جدا للسيارات وقيادتها ما اذا نُقلت عن لسان شخصية "نوري"...
الكثير من الوقائع الاجتماعية التي يشير لها غائب فرمان من خلال روايته "المخاض" وهي الرواية التي تتحدث عن مرحلة انتقال الحكم الملكي الى الجمهوري من خلال ثورة 14 تموز 1958، وسنلمس هنا نقطة مهمة من خلال أسلوب سرد غائب فرمان، فهو لا يحمل روح النكتة الواضحة في كتاباته، فسخريته من القدر توجد دفينة إلا انها عميقة في كتاباته أنه كمن يُحاكي الألم من طرف لسانه، ويُلقي عليه الكلمات من بين أسنانه بهدوء يرمي بها فيخلق هنا روح الاستهزاء والسخرية من الواقع الأليم، إلا أنه لا يرمي بنكتة واضحة صريحة، فعلى القارئ أن يتواصل مع فكرة الكاتب وروح وانفعال الشخصية ليشعر بالسخرية والكوميديا السوداء التي يقدمها غائب طعمة فرمان في روايته هذه...