ستار كاووش
في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، حدث تأثير كبير وحاسم على الرسم والرسامين في باريس، وقت كانت هذه المدينة مركز العالم في الفن والمودة والثقافة. تأثير لم ينتظره أحد ولم يتوقعه حتى أشد المتحمسين للتغيير والحداثة في الفن، إنه تأثير الفن الياباني الذي غزا باريس حينها، وأدى الى إنعطافة كبيرة في الفن، وخطا به خطوة كبيرة نحو الحداثة.
نتلمس جانباً كبيراً من هذا التأثير في المعرض الذي يقيمه الآن، متحف فان غوخ في إمستردام، ويحمل عنوان (فان غوخ واليابان) ويستمر لشهرين قادمين. لم يتوقع فنسنت أن يحدث كل هذا التأثير في فنه، وَقتَ مَدَّ يده واشترى أول طبعة للوحة يابانية تقع تحت نظره في مدينة انتفيربن البلجيكية. حينها كانت هذه أول إلتفاتة منه نحو هذا الفن البعيد الذي أحدثَ كل هذا التغيير في رؤيته الفنية فيما بعد. أُعجِبَ فنسنت بتلك الطبعة وقام بتعليقها على جدار غرفته، وقد كتب لأخيه تَيّو حول ذلك قائلاً (أنا بصدد إجراء بعض التعديلات على المرسم والمكان الذي أعيش فيه. حتى لوحاتي أصابها طور من التغيير، وخاصة بعد حصولي على طبعة لعمل ياباني، راقَ لي كثيراً وسحبني الى مكان آخر بشخصياته النسائية الصغيرة والجميلة التي تسترخي في الحدائق وعلى الشاطئ، حيث أشكال الزهور والأغصان المتداخلة). وعند وصوله الى باريس سنة ١٨٨٦ قام بمعية أخيه بجمع أعداد كبيرة من المطبوعات اليابانية. ساعتها لم ينظر اليها فنسنت بأعتبارها مطبوعات بسيطة أو مجرد كارتات تذكارية، بل أصبحت بالنسبة له مثالاً فنياً فائق الجمال، وأخذت مع الوقت تؤثر على رؤيته الفنية كما تؤثر أعمال المتاحف العظيمة. وقد كتب في إحدى رسائله لأخيه سنة ١٨٨٨( الفن الياباني حالة فريدة وخاصة ومؤثرة، إنه مثل الفن البدائي أو الفن الأغريقي أو حتى مثل فَنَّنا الهولندي عند ريمبرانت وفرانس هالس وفيرمير. يبدو لي فناً لانهائياً ويصلح لكل العصور). وقد إستهواه في هذا الفن، عدم إلتفات اليابانيون الى مركز اللوحة كما يفعل الأوروبيون، كذلك اهتمامهم بتكبير الاشكال التي في المقدمة، وقيامهم بإلغاء خط الأفق، إضافة الى جرأتهم في قطع بعض الأشكال التي تظهر على حافة اللوحة. وهنا تَعَلَّمَ فنسنت والكثير من فناني باريس، أن الفن لا يخضع في الغالب الى تقاليد الرسم التي تعودوا عليها. إضافة الى كل ذلك، أكتشف فنسنت في هذا الفن، تأثير الفضاء غير المعتاد والمساحات الكبيرة ذات الألوان البراقة والأهتمام ببعض التفاصيل الصغيرة التي تعود للطبيعة، وكذلك البهجة التي تتركها هذه الرسومات في روح الفنان.
لقد تأثر فنسنت بكل ذلك ومزجه مع رؤيته وتقنيته وحركة فرشاته القوية الواثقة، ليدفع بإسلوبه خطوات كبيرة الى الأمام. لم يتسنَ لفنسنت زيارة اليابان، لكنه تَعَرَّفَ على فن هذا البلد من خلال المطبوعات التي قام بجمعها ودراستها بالتفصيل، حتى ألهمته كثيراً بتكويناتها الغريبة وتراكيبها غير العادية وألوانها الزاهية، لتتغير في النهاية لوحاته بشكل جذري. وقد أشار الى ذلك في أحدى رسائله التي كتبها لأخيه من مدينة آرل سنة ١٨٨٨(أنت تعرف بأني قد أحببت الفن الياباني وتأثرت به. لم أَزر اليابان، لكني ذهبت الى جنوبي فرنسا حيث الدفء ايضاً. لذلك أعتقد أن مستقبل الفن الجديد سيأتي من هنا، من الجنوب).
لقد أَمَدَّتهُ تلك الرسومات بمثال مدهش، فهمه فنسنت جيداً وسار معه الى الأمام ليؤثر فيما بعد في كل تاريخ الرسم. وهنا يكتب مرة أخرى لأخيه تَيّو (بمرور الوقت بَدَتْ رؤيتي للأشكال والالوان تتغير، وتقترب شيئاً... فشيئاً من الطريقة اليابانية. أشعر الآن بأني أخضع لِلَّون بطريقة مختلفة، لذا أنا متأكد بـأن شخصيتي الفنية ستتغير جذرياً إذا ما بقيت هنا في الجنوب فترة طويلة).
يضم المعرض مجموعة كبيرة من لوحات فان غوخ التي تعود لتلك الفترة، إضافة الى مائة رسم ياباني من المجموعة التي كان يحتفظ بها وأثرت على أعماله.