لطفية الدليمي
ربّما لاتخفى على الكثيرين تلك السلسلة من الكتب التي تتناول شتى العناوين المعرفية متبوعة بعبارة ( مقدّمة قصيرة جدّاً A Very Short Introduction ) : إنها سلسلة الكتب الذائعة الصيت التي لازالت جامعة أكسفورد العريقة مواظبة على نشرها منذ عقود عديدة ، ولاينبغي أن تذهب الظنون بالبعض فيتصوّرُ أنّ تلك المؤلّفات المختصرة محض تعريف مبتسر بالموضوعات التي تتناولها ؛ بل الحقّ أنّها تعتمد مقاربة جادة ورصينة هي أقرب إلى خارطة عمل معتمدة في كلّ تلك المؤلّفات يُرادُ منها تقديم مسح معرفي مختصر يلمّ بمعظم جوانب الموضوع المطروق ، ثمّ ينتهي الكتاب بقائمة مقترحة من المصادر والقراءات المنتخبة الثرية . لستُ هنا بصدد الدعاية أو إبداء إطراء بتلك السلسلة الرائعة ( ولو أنّ هذا الأمر ليس مدعاة لمثلبة أو خروجاً على عُرفٍ ثقافي أو مدوّنة سلوك جمعي ) ؛ لكني أقول أنّ هذه السلسلة لوحدها تكفي لجعل جامعة أكسفورد جديرة بإطراء الفضائل الأكاديمية التي تتمتع بها ، وممّا يدعو للعجب حقاً أن جامعة أكسفورد التي تأسّست ( هي وشقيقتها كامبردج ) مع بواكير القرن الثالث عشر ، وعُرف عنها التشدّد في المعايير الأكاديمية ذات القياسات النخبوية الصارمة ؛ لكنّ قروناً من الممارسة الأكاديمية والتفاعل مع متغيّرات العالم جعلت تلك الجامعة - وسواها كذلك - أقرب إلى اللاعب المؤثّر في صناعة تفاصيل الحياة اليومية والإشتباك مع العناصر المشكّلة للمشهد الثقافي في مجمل تلاوينه ، ولابأس من الإشارة هنا إلى وجود الكثير من مقدّمات أكسفورد المختصرة المُعرّبة متاحة بالمجّان على الشبكة الالكترونية بطريقة تفي بمتطلبات حقوق النشر ، وهي - كما أحسب - إحدى المناجم المعرفية الثرية لمن يبتغي حيازة معرفة مناسبة ورصينة في شتى مظانّ المعرفة .
ليست جامعة أكسفورد وحيدة في جهدها الساعي لنشر المعرفة وترويجها على أوسع نطاق ممكن ؛ بل هناك الكثير من الجامعات الرصينة سواها ، ومنها تجربة جامعة ييل الأمريكية التي دأبت منذ سنوات عديدة على نشر دراسات مختصرة في فروع معرفية محدّدة تحت عنوان جامع هو )( مختصر تأريخ ال ....... A Little History of) (…… )) ، وكم تمتعت بقراءة بعض تلك العناوين المثيرة .
إنّ ممّا يلفت النظر هو أنّ صناعة الترويج المعرفي ماعادت فعالية مقتصرة على المؤسسات الجامعية الأكاديمية ؛ فقد أصبحنا نشهد الكثير من السلاسل المعرفية التي تنشرها دور النشر العالمية الرصينة ، ومَنْ يتابع تلك الإصدارات يعرف حتماً بعض أهمّ تلك السلاسل وربّما يكون قرأ بعضاً منها .
المعرفة في وقتنا الحاضر غدت منتجاً إنسانياً ثقافياً ثنائي الأوجه ؛ فهي من جانب تمثّل جوهر الرأسمال الرمزي الذي تتشكّل منه الثقافة البشرية ، ومن جانب آخر هي سلعة مثل كلّ السلع تخضع لمؤثرات الترويج والدعم ؛ ولمّا كانت البشرية على بوّابة منصّة إنطلاق غير مسبوقة تجاه مستقبل واعد بالكثير من الممكنات - والكوارث - التقنية والعلمية فسيكون من المحتّم جعل تنويعات المعرفة متاحة للجميع وبخاصة في عصر العوالم الرقمية التي يسّرت تداول جميع أشكال المعرفة .
المعرفة قوّة ، وهي متطلّب أساسيّ للإرتقاء البشري مثلما هي حقّ طبيعي كسائر الحقوق المعتمدة للبشر ، ومالم تصبح المعرفة متاحة للجميع عبر جميع الوسائط الممكنة فلن يكون بوسعنا الحديث عن بيئة تحترم كلّ حقوق الإنسان ، وليت جامعاتنا وكلّ مؤسّساتنا الثقافية تعي هذا الأمر قبل أن تواجه حتمية الإنقراض والزوال .