TOP

جريدة المدى > عام > الإنسانية وأمنياتها الدائمة

الإنسانية وأمنياتها الدائمة

نشر في: 5 مايو, 2018: 06:15 م

ياسين طه حافظ

حين أقرأ رواية، مع الاهتمام بفنها، لغة، أسلوباً وتقنية ،تعنيني الاجواء التي ابتدعتها. طبيعةً أو مجتمعاً وحياة. في السنوات الأخيرة ، وربما بسبب العمر، صار اهتمامي خاصاً باخلاقيات شخوص الرواية وما يشير له كلامهم وسلوكهم، في الحزن و الاكتئاب او في الغضب والرضا والفرح... أظن الغضب قوة كاشفة كبيرة لخير الإنسان وشره. لصفائه وطيبته مسكنته أو لطفه ولتعاسته او رداءته يكشف وهو يطلق أسرّ مكبوتاته وحقائقه.مجموع ذلك، يريك ما في المجتمع من انسانية أو تعاسات ليس مثل الانفعالات كاشفة عن الدخائل!

في أحوال تكوّن إنسانيةُ الانسان ناضجة مكتملة، يفتح الغضب باباً صدئة مقفلة ليطل منها إنموذج إنساني يعلن للناس ما اختفى عنهم وينبههم الى جرائم ترتكب وشر يدمر حياتهم. وهذا ما نجده ساعة يقاد فيها أفراد للاعدام أو ساعات الانتحار أو التخلي عن المنصب أو العمل! بمثل ذلك تماماً جاء قول ديمتري فيدورفيش بعد استجوابه إثر اتهامه بقتل أبيه، وهو ماض في طريقه ليركب العربة التي تقله حبيساً الى المدينة..
نعلم، من الرواية، أعني رواية ديستويفسكي " الإخوة كرامازوف" أن ديمتري شخصية معقدة التركيب فهو صعب، جموح، طيب السريرة يتفجر عواطف ، حباً أو وغضباً. عموماً كان سبب استيائه وشراسته هواستحواذ أبيه على حصة له في ميراث، في وقت هو يحتاج الى مال ليفي بما قطع من وعد.
وما يعنينا الآن هو ما أطلقه ديمتري وهو يقاد حبيساً حيث هتف ميتيا (ديمتري)، يقول في ثورة جامحة، متجهاً بكلامه الى جميع الحضور في القاعة وهو يغادرها.
" لحظة أيها السادة ! نحن جميعاً قساة! نحن جميعاً وحوش مفترسة. نحن سبب الدموع التب تسكبها الأمهات ويسكبها الاطفال الرضع. أنا، أقول هذا جهاراً وعلى رؤوس الاشهاد هنا ،انا انذل الناس وأدناهم طرّاً انني أسلم بهذا. وما من يوم انقضى في حياتي إلا وحلفت مراراً، وأنا ألطم صدري، لأصلحّن أمري ولأقوّمَنَّ عوجي، ولكنني كنت أهوي الى أخطائي في اليوم الثاني ادرك اليوم أن رجالاً مثلي محتاجون الى ان يضربهم القدر ضربة تهز كيانهم وتوقظ في أنفسهم قوة الحقيقة العليا. ما كان لي، أبداً أن أستطيع النهوض من تلقاء نفسي! لكن الصاعقة قد نزلت علي وأنا أتقبل عذاب الاتهام الموجَّه إلي وأقبل العار الذي تلطخ به شرفي أمام الناس. أريد أن أتألم، وأن أتطهّر بالألم! أليس هذا صحيحاً أيها السادة ؟ ولكني أؤكد لكم آخر مرة أنني لم اسفح دم أبي، إنني اقبل العقاب لا على قتله، بل على إنني أردت أن أقتله، وربما سأقتله في النهاية، وسيقرر الرب مصيري. الى اللقاء أيها السادة. واغفروا لي ما ظهر مني من غضب أثناء الاستجواب. آه... ما كان أغباني عندئذ! بعد بضع ثوان لن أكن إلا سجيناً، ولآخر مرة، يمد ديمتري كارامازوف يده إليكم مصافحاً مصافحة رجل حر طليق.وأني إذ أودعكم إنما أودّع العالم..."
ما الذي تكشفه لنا تلك الأقوال، علماً بأنه لم يقتل اباه، بل القاتل سواه، ولكنه أعطى مسوغات تؤكد إتهامه؟ ما يعنينا هو هذا الكشف للحقائق وما أقره هو عن أخطاء وصفها بالنذالات والسقوط الأخلاقي. وعدم استفادته من أخطائه بل تكرارها. وقوله قبل هذا ،نحن جميعاً قساة ووحوش لها ساعات افتراسها واننا سبب بؤس ودموع الناس ، هو كشف لواقع إنساني ولسلوك نشكو منه ونألم، ومنه متاعب الآخرين... في مراجعة للنفس يجد الفرد نفسه مداناً وأنه كثيراً ما استشرس وما أساء و سبب اذى لسواه. هذه منغصاة حياة نشكو منها ونحن على انفراد مسببّون لها ! أما صيحته الأخيرة إلى أن ناساً ( مثله) محتاجون لأن يضربهم القدر ضربة تهز كيانهم وتوقظ في أنفسهم قوة الحقيقة العليا، فهو قول ثوري، وان هزةً قوية قد يحتاج لها بعض الناس، لينتبهوا ، وليصلحوا ويكفوا شرهم أو استغلالهم أو كذبهم واحتيالهم أو آثامهم وأخطاءهم بحق الناس.
ليت قوة نبيلة، قدسية! تهز الحياة التالفة والمجتمعات المتفسخة والحكام العتاة والخطاة الأشرار، ليفتحوا أعينهم على جمال الحياة الذي يشوهونه.وهناء الناس الذي يسممونه .أ دائمة أن تكون إنسانية الانسان سليمة نظيفة وتكون سماء الناس طيبة صحواً والعيش الآمن للجميع..قد تكون هذه أمنية كبيرة من النوع الذي يمكن أن تكون رغبة في الثورة أو هي أقرب للثورية منها للرغبة أو الأمنية العاطفية العابرة.وأقول نعم هو اتجاه ثوري في هذه الرغبة والحاجة أكبر من أن تحققها حكمة أو موعظة أو أمنيات معطلة تشع قليلاً ثم تنطفئ.
لكننا أيضاً نتحفظ من الثورات بلا مواصفات بلا نظام يحكمها، بلا عِلْم يوجهها لكي لا نسقط حيث ابتدأنا ونعود نتمنى هزة ، قدراً، ينقذنا مما صرنا إليه.
يبدو لي إن التحمل الطويل الصعب للشعوب هو من خشية العواقب، خشية ألا يجيء ما هو افضل مما ثرنا عليه. وهو هذا العذاب وهي هذي المِحَن والأزمنة الصعبة !أزمنة المعاناة وخشية الهزة، القبدر، أو الثورة الكاسحة! لكن اتساع الثقافة اليوم وتنامي الحس المدني والقيم الاخلاقية التي تصحب العلوم والفنون وسكينة الإيمان وحكمته، يجعلان الاطمئنان الى هزات التغيير أكثر. فوضى العوام انحسرت كثيراً وضعف كثيراً خطر الثورات. فلن تتكرر عواقب ثورات عرفناها، الفرنسية مثلاً، أو ما شهده العالم من بعد وأرى إن الاصلاحات المجتمعية والتغيرات المدنية، هي مايمكن أن يرتضيه العصر وما يمكن أن يوفر أخطاء وخسارات....

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

إردوغان عن دعوة أوجلان إلى إلقاء السلاح: "فرصة تاريخية"

ترامب: زيلينسكي غير مستعد للسلام

حكمان عراقيان لقيادة نهائي كأس آسيا للشباب في الصين

إيران تعلن الأحد المقبل أول أيام شهر رمضان

وزير الكهرباء الأسبق: استيراد الغاز من إيران أفضل الخيارات

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

النوبة الفنيّة أو متلازمة ستاندال

صورة الحياة وتحديات الكتابة من منظور راينر ماريا ريلكه

علاقة الوعي بالمعنى والغاية في حياتنا

وجهة نظر: كيف يمكن للسرد أن يحدد الواقع؟

تخاطر من ماء وقصَب

مقالات ذات صلة

علاقة الوعي بالمعنى والغاية في حياتنا
عام

علاقة الوعي بالمعنى والغاية في حياتنا

ماكس تِغمارك* ترجمة وتقديم: لطفية الدليمي بين كلّ الكلمات التي أعرفُها ليس منْ كلمة واحدة لها القدرة على جعل الزبد يرغو على أفواه زملائي المستثارين بمشاعر متضاربة مثل الكلمة التي أنا على وشك التفوّه...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram