فوزي كريم
بعض الشعراء والكتاب الذين أعتبرُهم اكتشافاً، بفعل انسجام الرؤى والمواقف، يشكلون غديرَ عافيةٍ يستعيدُ في مياهه الجسدُ، وكذا الروحُ والعقل، الثقةَ بالنفس، والعزيمةَ في المواصلة. أحدهم، ولعله أبرزهم، الشاعر البولندي ميووش Czesław Miłosz (1911 ـــ 2004). إنه يجسد في حياته الخاصة، في نظر الشاعر الصربي/ الأمريكي تشارلس سيميتش Charles Cimic، "كل اضطرابات القرن العشرين". فهو إلى جانب كونه شاعراً، كاتباً، دبلوماسياً، منفياً وحائزاً على جائزة نوبل، فقد خبر الحربين العالميتين، والثورة الروسية، والسلطتين الفاشية والشيوعية، وعاش في أوربا الشرقية والغربية، وفي وقت لاحق في الولايات المتحدة. وكم استعاد هذه الأحداث في كتاباته. لقد صهر التاريخَ بتجربته الشخصية. تجاوز الأول لينصرف إلى المعيار الذي ولد في الثانية، وهو المعيار الأخلاقي. "إلا أن الخير والشر اللذين شغلا الفلسفة والدين، بحيث نُسبت إلى جدلهما الدائم، ليسا إلا أموراً يتعرف عليها المرء في حياته اليومية، كخبرة الخوف والجوع، وكمذاق الخبز."
في تجمعه اليساري ذي التوجس القاتم، يوم كان شاعراً شاباً، حتى أطلق عليه الوسط الثقافي لقب تجمع "الكارثيين"، كان يرى ما يرون من أن الأدب لا يمكن أن يهرب من الواقع السياسي والاقتصادي. ولكنه مع الأيام لم يعد يطمئن إلى هذه النزعة اليسارية، بالرغم من رغبته في رؤية النظام القديم مُدمراً. لأن النظام الجديد المُحتمل يثير شكوكه بالدرجة ذاتها. ولقد وضعه هذا الارتياب بحصانة ضد كل نزعة وإيمان عقائديين.
أثناء الاحتلال النازي لبلده ﭘولندا كتب أكثر قصائده شهرة: "العالم"، "الفقراء المسيحيون ينظرون إلى الـﮔيتو"، "أغنية المواطن"، "التفاني"، وفيها ابتعد عن الذاتية والرؤى المستقبلية المظلمة، والتزم أسلوباً يسيراً على قارئه. إنه يكتب ما يمليه عليه معياره الداخلي، المُكتسب، كما قلت، من خبرة الحواس، والوجدان والضمير اليقظين.
يروي الشاعر سيميتش في عرض لكتاب جديد في مجلة New York Review of Book حول ميووش بعنوان "قصائد من الهاوية" بأنه، في حفل يظم مجموعة من المثقفين البولنديين، قال بأنه يحب ميووش، ففوجئ بردود أفعال غاضبة: "إنه مجرد حثالة"، قال أحدهم، لأنه رفض الانظمام إلى "انتفاضة وارشو" ضد النازية عام 1944، ولأنه أصبح دبلوماسياً للحكومة الشيوعية بعد الحرب.
بالنسبة لمعظم البولنديين، كانت الانتفاضة التي أمرت بها الحكومة البولندية في المنفى في لندن، موقفاً بطولياً وشجاعة وطنية. ولكن التمرد الذي أدى إلى مقتل مائتي ألف شخص وجعل وارسو أنقاضاً، بالنسبة ميلوش، كان عملاً أخرق. (أقرأ الآن موقفاً شبيها للأرلندي روجر، بطل رواية "حلم السلتي" للروائي ماريو بارغاس يوسا، الذي اتُهم لأنه وقف ضد مواطنيه من الجنود الأسرى لدى الألمان وبالدافع ذاته، الداعين إلى مهاجمة الانكليز.)
ويعلق سيميتش بشأن شخصه هو كشاعر صربي: "وأنا الآخر، مذ انقسمت عائلتي، شأن كل عوائل أوربا الشرقية، بين داعين للقتال وداعين للبقاء أحياء، أجدني أتعاطف مع حالة البولنديين، ويمكن أن أرى بأن القطبين كانا معاً على صواب وخطأ بصورة مأساوية."
حين تحرر ميووش من عمله الدبلوماسي في باريس مطلع الخمسينيات كان اليسار الثقافي الفرنسي محتفياً بالستالينية، ولذلك ناصبوه العداء، وكذا اليسار البولندي الذي اتهمه بالعمالة حين هاجر إلى أمريكا. هذا اليسار الثقافي الذي وضع عنه كتابه الرائع "العقل المُعتقل". وتحت وطأة هذا اليسار ذي "الشيزوفرينيا"، وليدة التمسك بالمصلحة الشخصية والمصلحة العقائدية في آن معاً، نضج موقف ميووش النقدي، السلبي من العبث البطِر لتيارات الحداثة المتطرفة وما بعدها.
ما أشبه يسارنا (الوطني، القومي، الأممي..) نحن العرب بيسار الغرب، بالرغم من أنه نسخة زائفة. ولكن ما أندر أن نجد ـــ حتى بنسخة زائفة ـــ شاعراً ببصيرةٍ نافذةٍ وضميرٍ يقظٍ كميووش.
تصاعد الاهتمام بالشاعر حين حصل على جائزة نوبل عام 1980.