كان: عرفان رشيد
حربان لا رابط بينهما جغرافياً، ستراتيحياً أو ايديولوجياً، لكنهما مرتبطان بمُرتكزٍ واحد: هو الإنسان، فاعلاً ومفعولاً فيه.. مجرماً وضحيَّة. وهذان هما " حرب الإلغاء " و " حرب الإقصاء "، ولئنْ غابت الدماء من مشهد الحرب الثانية ( الإقصاء ) ، فهي ليست بالتأكيد أقلّ عنفاً أو وحشية من الأولى ( الإلغاء ).
وليس هذان هما الوحيدان في الكون، إلاّ مجاورتي بينهما جاءت من مصادفة برمجة فيلمين في يوم واحد من نهارات الدورة الحادية والسبعين لمهرجان كان السينمائي الدولي، وهما « يوم الدين » للمصري الشاب أبو بكر شوقي ضمن المسابقة الرسمية للمهرجان، و "دونباس" للمخرج الأوكراني سيرغي لوزنيتسا.
خطايا الإقصاء
يُعتبر حضور أبو بكر شوقي في مهرجان « كان » إنجازاً إستثنائياً يُسجّل لمجمل السينما العربية، فهو المخرج العربي الأول الذي يشهد عمله الأول عرضاً ضمن المسابقة الرسمية لمهرجان كان السينمائي الدولي ويتنافس على جوائزه الهامّة التي قد تفتح، للفيلم وللمخرج، مسارات أهم وآفاقاً أرحب.
يروي الفيلم حكاية «بشاي » المُصاب بالجُذام منذ الطفولة والذي ترعرع في «مستعمرة المجذومين» التي تُبعد عن القاهرة بساعتين. بشاي، الذي يعيش حياته «الاعتيادية» مُتغلّباً على حالات العوق التي تسبّب بها المرض من أضرار كبيرة على جسده، وبالذات على يديه ووجهه. ووليقيم أوده يعمل في جمع « الخردوات » من جبل القمامة القريب من المستعمرة ليبيعها إلى مقاول مُستغِل.
بشاي، وبرُغم حالته، ليس وحيداً، فبالإضافة إلى رفاقه المجذومين في المستعمرة ثمة عدد من الأشخاص من بينهم إناس الحي الذي تقوم فيه المستعمرة، والصبي، يتيم الأبوين، «أوباما» وحماره الأمين « حربي » الذي يجرّ عربته الحاملة لما يجمع من « خردوات ». وثمة أيضاً زوجته المصابة بمرض عقلي وهي نزيلة مستشفى الأمراض العقلية.
لا يشعر بشاي بالوحدة إطلاقاً، إلاّ حين تقتحم تلك الوحدة حياته عنوة لدى وصول نبأ وفاة زوجته في المستشفى، ويُتيح مشهد وفاة الزوجة إكتشاف كون بشاي مسيحياً من أقباط مصر.
رحلة بشاي للبحث عن أهله للانضواء تحت مظلّتهم تنتهي بالقناعة المطلقة من أنّ الأهل الحقّ هم من يعيش المرء بينهم دون أن التعرّض إلى مساءلة واستجواب وحكم أو إلى نظرات ازدراء، وأنّ الأهل هم أؤلئك الذين يقبلونك دون الحكم عليك وفق معاييرهم ومقاساتهم.
رحلة بشاي برفقة صديقه الصغير « أوباما » لقطع المسافة التي تقتضي ساعتين فقط بوسائل النقل الاعتيادية، تتحوَّل إلى زمن طويل ليس بسبب الحركة البطيئة التي تفرضها عليهما الظروف، بل لأنٌ ذلك الترحال على الدروب الجانبية يُتيح فرصة إلقاء نظرة مُتفحّصة لاكتشاف مصر الأخرى وأناسها المقصيّين بسبب ما تراكم وتواتر منذ عقود، أو ربما منذ قرون طويلة أيضاً.
أهمية ما أنجزه هذا المخرج الشاب (برفقة منتجته ورفيقة حياته ) تكمن في انّه لم يسعَ إلى عرض حالة الاقصاء التي يواجهها « المختلفون » بغرض انتقاد من يمارسون الإقصاء، بل للتأكيد على القوة الكامنة في دواخل المقصيّين في مواجهة المصاعب والمصائب، وعلى الكُنه الحقيقي لمفردتي « التضامن » و « التكافل » بين البشر. فالقرار النهائي الذي يتّخذه بشاي، بالاتفاق مع رفيق رحلته الصغير « أوباما » ليس وليداً للخوف أو رغبة للهرب من خطر ما، بل هو قرارٌ للعودة إلى « الوطن » الذي يتوفّر فيه الأمان بفضل مواطنيه.
متاهات لوزنيتسا .. حروب الإلغاء
ومن متاهة «كائن رقيق للغاية» للبحث عن الحقيقة في فيلمه السابق، ينتقل المخرج الأوكراني سيرغي لوزنيتسا إلى متاهة «دونباس»؛ وهي المنطقة الواقعة على الحدود الشرقية في أوكرانيا، في مثلّث يُكتظّ بالسلاح غير القانوني بين أيدي أفراد ومرتزقة العصابات المسلحّة المتناحرة فيما بينها، والجماعات المنفلتة من الجيش الاوكراني. اكملّ يتصارع مع الكل، والكل يسعى الى فرض هيمنته على المكان والبشر في تلك المنطقة، وإلى تنفيذ الانتقامات المتبادلة دونما إبطاء.
وكما كانت السيّدة الباحثة عن زوجها المسجون في الفيلم السابق، هي الضحية في دوّامة البيروقراطيّة الرهيبة، فإن المواطن البسيط، هنا في «دونباس»، هو الضحية الأساسيّة مُذلاً، مُهاناً وقتيلاً.
وتبدو الحرب، التي يعرضها لوزنيتسا في فيلمه هذا، حرباً لا نهائية، ولن يكون فيها منتصرٌ واحدٌ ابداً، بل سيكون فيها خاسر واحد ومؤكد: هو المواطن البسيط.