نجم والي
في عمود الأسبوع الماضي بدأت بالحديث عن الدراسة المفصلة التي قدمها عالم الاجتماع والخبير في شؤون التربية والتعليم، البروفيسور الألماني راينير أنغيلمان في كتابه "أحجار بثمن بخس"، والذي يبحث في التجاوزات التي تعرضت وتتعرض لها الوثيقة الرسمية الخاصة بعمل الأطفال للأمم المتحدة،
وكيف أنه لا يكتفي في دراسته بتقييم المعلومات الإحصائية التي في حوزته فقط، إنما يقدم للقارئ أيضاً عينتين ملموستين لأطفال يعيشون في الهند ورواندا. المثلان اللذان يقدمهما الخبير التربوي الألماني تبينان حجم البؤس الحقيقي الذي يختفي خلف الارقام "المجردة".
أنه يروي قصة "مودهاكار" الذي يعمل منذ أن كان عمره ثماني سنوات، الأجر الذي يحصل عليه (وهو يعمل قرابة 12 ساعة في اليوم) لا يتجاوز الـ "سنت" الواحد في اليوم في معمل لصناعة الآجر الثقيل، لماذا؟ فقط بسبب المديونية الملزم بتسديدها عن طريق العمل، وهو لا يعمل لوحده، إنما يعمل سوية مع أبيه وأخوين آخرين. العائلة إضطرت ذات يوم لإستدانة قرض من أحد أصحاب معامل تقطيع الآجر الثقيل، عندما مرضت الأم، صاحب المعمل منحهم القرض لكن الفائدة التي وضعها عليه فائدة كبيرة، مثله مثل أي مرابٍ جشع، وهذا ما يجعل الدين يرتفع يومياً، رغم أن العائلة تعمل إثني عشر ساعة في اليوم. مودهاكار يعرف جيداً، أن الغبار الذي تبعثه مداخن الآجر سيحطم رئتيه الإثنتين، كما فعل وحطم رئة أبيه، الذي يبصق دماً منذ وقت طويل، وهو يعرف، أن أي قرض جديد لعلاج الأب، سيجعله هو وأخوته عبيداً لصاحب المعمل عقوداً طويلة أخرى. في النهاية، أنه حائر لا يعرف ماذا عليه أن يفعل، غير أن يواصل عمله العبودي، مثل سيزيف!
البروفيسور أنغلمان يخبرنا، أن الطفل الهندي ليس وحده الذي يخضع لظروف العمل القاسية هذه. هناك حوالي 150000 ألف طفل يعملون في نفس الشروط التي يعمل فيها مودهاكار، وهي أجورهم الواطئة هذه والتي تصل حد الإجحاف هي السبب الرئيس الذي يكمن وراء بيع حجر الآجر الذي يُصنع هناك بسعر رخيص في ألمانيا وفي دول أوروبية أخرى! نفس الأمر كان يحدث مع صناعة البسط، لكن الأمر إختلف في السنوات الأخيرة. ففي ما يتعلق بصناعة البساط تغير الأمر بعض الشيء، منذ أن أصبح من الممكن شراء بساط مدموغ بختم خاص يقول أن البساط لم يُنتج من عمل الأطفال، أما الختم الذي نراه على ماركات أخرى على شكل زهرة، فيعني أن البساط أُنتج ضمن شروط عمل إنسانية وبيئوية صحيحة. وبما يخص حجر الآجر لا يملك الزبائن حتى اليوم إمكانية معرفة الشروط التي أُنتج فيها الحجر.
البروفيسور الألماني، وعلى عكس الدعوات التي ترفعها منظمات إنسانية عديدة في الغرب، والتي تحثّ الناس على مقاطعة البضائع القادمة من البلدان التي يعمل فيها الأطفال بأحور بخسة، كما حدث بعد الحملة القوية التي شُنت ضد شراء الأقمشة الهندية، أنه يدعو بدل ذلك الأمم المتحدة الى الضغط على الدول تلك لتحسين شروط العمل على الأقل، لأن منع دخول هذه البضائع سيلحق الأضرار بالأطفال أكثر، والدليل على ذلك، هو ماحدث بعد أن منعت الولايات المتحدة الأميركية إستيراد الأقمشة من الهند التي تنتجها معامل يعمل فيها الأطفال، فما حدث بعدها، هو أن المعامل تلك رمت الاطفال إلى الشارع. غالباً ما يكون على هؤلاء الاطفال في هذه الحالة العمل تحت شروط عمل أسوأ أو ينتهون للعمل في الدعارة.
كتاب أنغيلمان لا يمنحنا عن طريق الإحصائيات والصور التي يحتوي عليها بانوراما شاملة عن وضع الأطفال في كل العالم فقط، إنما لا يجعلنا نشعر بالملل أثناء قراءة الكتاب. في النهاية طفلان قصتهما نموذجية لملايين الأطفال.