فوزي كريم
المثقف والتطلع السياسي، والدكتاتور، والأخلاق، وتطابق الفكرة والعمل..الخ تدور على محور واحد. تشغل كتاب الغرب، ويُفترض أن تشغل كتابنا أيضاً بالمقدار ذاته. المحور بدأ مع أفلاطون في تطلعه إلى صيغة "الفيلسوف الملك" المثالية، والتي وضعها موضع التطبيق، حين التحق بالملك ديونيسيوس، طمعاً في تحقيق حلمه. ولكن السلطة السياسية انقلبت عليه وكادت تودي بحياته. الأمر كان مختلفاً مع أرسطو ودوره التربوي للأسكندر. لأن الفيلسوف تبين تدريجياً أنه إنما يسعى لخلق فرانكشتاين امبراطوري، هو مزيج من أجزاء مستنيرة فلسفياً ولكن مدفوعة بدماغ بربري، مصاب بجنون العظمة.
إلا أن عناية الكتّاب بدأت مع القرن العشرين، قرن الحروب الكبيرة والصغيرة، وصعود اليوتوبيات الأممية والقومية والدينية، التي أثمرت صيغة الدكتاتور في روسيا، إيطاليا، ألمانيا وبلدان العالم الثالث.
كتاب "خيانة المثقف" للمفكر الفرنسي "جوليان بيندا" كان بمثابة بادرة (راجع كتابي "تهافت الستينيين")، ثم جاء كتاب الشاعر البولندي ميووش "العقل المُعتقل" (راجع كتابي "القلب المفكر) ليشكل قاعدة انطلاق. بعدهما لم تتوقف كتب التساؤلات الحائرة بشأن هذه الجاذبية بين المثقف والدكتاتور، أو بينه وعقيدة السلطة الشمولية.
وأنا أتصفح المجلات والصحف الثقافية التي تصلني، أو التي أطالها في المكتبة العامة، أقع على عروض للكتب التالية الصادرة حديثاً: كتاب "المثقف وقرن من عبادة البطل السياسي" لـ"بول هولندر* يستعرض بالتحليل الحلقة الرخوة لدى المثقف إزاء السلطة، من محاباة فولتير لكاترين روسيا، والإيطالي دي أنيوزيو الحالم بإعادة قوة الامبراطورية الرومانية، والذي كان النموذج المُحتذى لموسليني، ومواقف سارتر من السلطة السوفيتية وتشيفارا، الذي يرى حلمه المخْلص مبرراً لكل عنف، وهايدﮔر النازي الذي يرى "الفوهرر وحده هو الحاضر والمستقبل لواقع ألمانيا وقانونها، هو الموقظ لهذه الارادة في نفوس الناس جميعاً." كتاب " شعر، سياسة وجنون إزرا ﭘاوند" لـ"دانيل سويفت"*، يثير مأزق فصل الكاتب عما يكتب كضرورة، واستحالة ذلك في الوقت ذاته. كان ﭘاوند (الذي التحق بفاشية موسليني)، مادام يمس الأرض والخبرة الحية بقدمين، شاعراً عملاقاً. ولكنه ما أن يحلق في الهواء، كراءٍ، ومنظر إجتماعي وفيلسوف حتى تسكنه الأوهام، من عبادة القوة، والعنصرية. يقول المؤلف بأن " ﭘاوند قد فقد الإيمان بفاعلية القصيدة فتجاوزها إلى الأفكار." دار النشر "ﮔاليمار" الفرنسية تثير ردود فعل ضاجة هذه الأيام بسبب إعلانها عن إعادة نشر الكتيبات الممنوعة المعادية للسامية للروائي الفرنسي "سيلين" المتعاون مع النازية، زمن احتلال فرنسا. وظل الدافع الغريب موضع اجتهادات. كان الروائي "سيلين" قد نشر كتيباته بين 37 ـــ 1941، يوم كانت فرنسا تحت الاحتلال الألماني. اتهم بالخيانة، وهرب إلى ألمانيا، ثم الدنمارك، ثم عاد إلى فرنسا عام 1951 آمناً. كتاب "الحكم على برناردشو" لـ"فِنتان أوتول"* يثير مسألة مغازلة الاشتراكي الأيرلندي "شو" لـ"موسليني"، "هتلر" و"ستالين". المؤلف يحدد المأزق بقوله "إن الرائي الكبير فشل أن يرى الطبيعة الحقيقية للفاشية، النازية والستالينية. أراد أن يعتقد بأن الأنظمة الشمولية الثلاث مجرد طلائع خام لتقدم وديمقراطية حقيقيين قادمين." هذا الإيمان الساذج بالانسان المتفوق، تأثراً بنيتشة، لم يكن خصيصة جديدة في عقلية برناردشو. الجديد والمثير للرثاء هو غياب أي نوع من أنواع البصيرة المتعاطفة مع عذابات الناس المعرضة لسطوة هذه الأنظمة الشمولية.
أربعة كتب تثير المأزق الذي هو ظاهرة القرن العشرين: المثقف وجاذبية البطل السياسي. صحيح أن ظاهرة هذا المثقف العربية عادة ما ترتبط بالارتزاق من أجل المال والجاه، ولكنها في الأغلب ذات جذر يوتوبي، إيهامي أيضاً. إن جاذبية صدام حسين، والخميني، وحتى عبد الناصر تنتسب لهذا النوع الأخير. إن السلطة الشمولية لهؤلاء، والتفرد بالسلطة المطلقة، والتعامل الدموي مع المختلفين بالرأي أو المعارضين، ليست وراء حجاب. ولكن المثقف يسعى دائماً إلى توفير الأعذار والمبررات. هذا إذا لم يفلسف سلطتهم بما يملك من وسائل ذهنية، إيهامية تُمليها الفكرة المقدسة.