سعد محمد رحيمأذكر، في النصف الثاني من سبعينيات القرن الماضي، حين سألني طالب زميل لي في الجامعة؛ كيف تتخيل بغداد في عام 2000؟ فأجبته بثقة كبيرة؛ أجمل من باريس. كانت باريس تداعب أحلامنا ونحن نقرأ عنها، ونرى مناظرها ومظاهرها على شاشات السينما والتلفزيون،ونسمع ممن حظي بزيارتها عن شوارعها ومطاعمها وأسواقها ومسارحها وجامعاتها ومتاحفها ومكتباتها وموضاتها وصرعاتها وصناعاتها ومقاهيها ونهرها (السين)
وجسورها وسيّاحها ونسائها الجميلات ولياليها المضيئة، وكانت بغداد منيرة لاتزال، لم تتمكن منها غيلان الحروب، وثيران البداوة، وشبح الحصار، بعد، ولم يخطر لنا يومها، ولو بقدر ضئيل، حتى في أسوأ كوابيسنا، أن بغداد ستتعرض لهذا الشحوب والدمار والتخريب كله، سنة بعد أخرى. وقبل أشهر وقف صديق لي (بعد سنوات من النفي والغربة) في حلق شارع الرشيد، من جهة ساحة الميدان، وقال بحسرة واندهاش، وهو يكاد يبكي؛ هذه آثار ضربة نووية. حفزتني للخوض في هذه الموضوعة قراءتي للعدد الأخير من مجلة (عالم الفكر) الكويتية والتي تضمنت ملفاً مترفاً عن باريس (270 صفحة من القطع الكبير). هذه المدينة التي كانت طوال قرون منبعاً للفكر والأدب والفن والعلم، ونموذجاً باهراَ في عمرانها وثقافتها ودورها الحضاري. كانت جامعة باريس (السوربون) أولى الجامعات الأوربية وقد تأسست في القرن الثاني عشر الميلادي. فيما (الكوليج دي فرانس) هي أقدم مؤسسة تعليمية علمانية في فرنسا ولا تقل شهرة عن السوربون، وقد أنشأها الملك فرانسوا الأول في عام 1529، قبل أن تتكون وتزدهر بقية الأكاديميات والجامعات الفرنسية. وتأثرت باريس بأولى تباشير النهضة الأوربية، ومن ثم الإصلاح الديني في القرن السادس عشر. وعرفت حركة التنوير وشهدت الثورة الكبرى في القرن الثامن عشر. وتكرّست فيها الثورة الصناعية في القرن التاسع عشر. ويكفي أن نستعرض أسماء بعض أعلامها من العلماء والأدباء والمفكرين والفنانين (ديكارت، باسكال، سان سيمون، فولتير، جون لوك، برجسون، مانيه، سيزان، سارتر، كامي، سيمون دي بوفوار، رولان بارت، فوكو) وعشرات ومئات غيرهم.. أقول؛ يكفي أن نستعرض أسماء هؤلاء حتى نعرف مدى الخصوبة المعرفية والفنية والحضارية لهذه المدينة التي هي بحق مدينة النور، وواحدة من أهم حواضر العصر الحديث. هذه هي باريس وهي تثير في مخيلاتنا صورة بغداد/ الحلم. وإذن ماذا عن بغداد/ بغدادنا الآن وغداً؟. هذا السؤال لابد من أن يملؤنا بالارتباك والشجن، والأمل أيضاً. بغداد التي كانت أم الدنيا قبل أكثر من ألف سنة، سليلة حضارات عريقة تضرب بجذورها في أعمق أعماق تاريخ التمدن البشري، كيف لنا أن ننهض بها ثانية؟ كيف لنا أن نجعلها تستعيد ألقها ودورها ومكانتها التي تليق بها بين مدن وعواصم العالم؟ كيف لنا أن نحميها وننقذها من أيدي الشر والتخريب والإرهاب والفساد؟. كيف نجعلها قبلة أنظار طلاب الجمال والمعرفة والعلم والفنون في كل مكان؟. من بدأوا ببناء مدن الخليج الفارهة قبل نصف قرن، كانت تتمثل لهم صورة بغداد مثالاً وحلماً. واليوم، إذا ما عاد صديقي القديم، الذي أضعت السبيل إليه منذ زمن بعيد، وسألني؛ كيف ترى بغداد بعد عشرين سنة؟. سأجيبه بثقة، مرة أخرى؛ لو أردنا حقاً، وعملنا من أجلها حقاً، ستكون أجمل من باريس.
وقفة: بـاريس وبغـــداد
نشر في: 19 إبريل, 2010: 05:04 م