زينب المشاط
التاريخ القديم وأحداثه التي بأمكانها أن تتسلل الى داخل حدثنا اليومي وتكون جزءاً منه لكنها لاتمتزج به، فبين ما حصل بالماضي، شخوص وتحليلات لوقائع، إشارة لأحداث، نوع من الروايات التي تحتاج الى تقنيات استثنائية، ودقّة في العرض، ومهارات سردية خاصة لنتمكن من خلالها أن نعرض الماضي من خلال حاضرنا، وهنا يقودنا التساؤل لماذا تفتقر السرديات العراقية الى "رواية تاريخية"؟ وهنا قد نشير الى التأريخ البعيد لا القريب، وهذا بذاته يخلق تساؤلاً آخر هل نفتقر لروائيين يجيدون استخدام أعلى التقنيات لكتابة مثل هذه الروايات؟ أم أن بيئتنا المُلغمة بالحروب والدم والوجع هي التي باتت تقود أقلامنا نحو الحرب وتوثيقها في أدبياتنا؟
"المدى" استطلعت عن أسباب غياب الرواية التاريخية من ادبياتنا، من خلال حديثها الى بعض الروائيين والنقاد العراقيين....
لم تنبثق الرواية التاريخية في الأدب العربي عن حاجة اجتماعية فرضتها متغيرات سياسية واقتصادية كبرى رغم المنعطفات الحاسمة التي مرت بها المنطقة العربية منذ أوائل القرن المنصرم وحتى قبله، أي مع طلائع حركة النهضة. الروائي عبد الله صخي يتحدث لـ "المدى" عن أسباب غياب الرواية التاريخية ويقول " إن الأعمال التي أنتجها جرجي زيدان ونجيب كيلاني وسليم البستاني لم يكن دافعها إعادة خلق الواقعة التاريخية استجابة لمعطى حياتي راهن إنما أغلبها كتب بدوافع تعليمية أو قومية أو محاولة لاستعادة مجد غابر." إذ يجد صخي أن هذه الروايات استعادية او تعليمية ويقول " إن غايتها الأساسية، كما أحسب، هي التذكير بالتجارب الحربية والسياسية أثناء الحكم الإسلامي حتى الاستعمار العثماني."
لينتقل صخي بعدها الى الكتابات الأحدث على يد نجيب محفوظ (كفاح طيبة، ورادوبيس) ويذكر إنها "هي الأخرى تقع ضمن هذا السياق إنما أنجزت بوعي سردي متقدم على سابقاتها."
ويطرح الروائي عبد الله صخي تساؤلاً ضمن مضمار الاهتمام بالرواية التاريخية ويقول"لمن نحتكم؟ للتاريخ أم للنص الذي كتب عنه ومنه؟ وإلى أي مدى يلتزم الكاتب بالواقعة التاريخية لجهة دقة الأحداث وحجم الخيال الذي يؤطرها؟" مُشيرا" إن النقد العربي اهتم بهذين السؤالين فتنافرت الأجوبة: هناك من يرجح الخيال على التاريخ أو من يرجح التاريخ على الخيال. إن أحد أسباب ضعف الاهتمام بالرواية التاريخية اليوم قد يكون غياب مفهوم دقيق لمصطلح الرواية التاريخية وجوهره وتكوينه. أما السبب الآخر فهو الانتشار واسع النطاق للمسلسلات التلفزيونية العراقية والعربية التي استقت من التاريخ جل أحداثه وشخصياته البارزة للحد الذي سلبت من الروائي فرصة إعادة كتابة تلك الأحداث وإعادة بناء تلك الشخصيات في رؤية سردية جديدة. وقد أضيف سببا آخر هو أن الواقع العراقي، على سبيل المثال، يزخر بمادة يومية ثرية ربما تغني الروائي عن البحث في بطون الكتب والوثائق للحصول على مادة يضاهي بها اللحظة الراهنة أو يماثلها."
قد لانستطيع القول إن غياب الرواية التاريخية في الادب العراقي غياباً كلياً، ولكننا إنْ شخصّنا الأمر بشكل سليم سنجد أن هذه الرواية تأخذ مساحة قليلة جداً في ادبياتنا، الناقدة نادية العزاوي تذكر أن "هنالك أعمالاً سابقة مثل كتابات غازي العبادي، وعبد الخالق الركابي تحدثت عن أحداث تاريخية مهمة، إلا ان هذه الاعمال قليلة جداً ولا تأخذ من ادبياتنا سوى مساحة ضئيلة."
تتحدث العزاوي عن مقومات توظيف المادة التاريخية ضمن رواية وتذكر "إن هذه العملية تحتاج الى روائي ملم بالجانب التاريخي بشكل عميق، ويلتقط جوانب يمكنه أن يدخلها ضمن النسيج الروائي، لأنه إن لم يفعل ذلك ستفشل الرواية، كما يجب أن يمتلك من الادوات القابلة للتطويع بمهارة وخبرة عالية، وأنا أؤكد أن لدينا روائيين قادرين على كتابة هذا النوع من الروايات ولكن البيئة العراقية لاتسمح بذلك."
الظرف التاريخي الذي عاشه العراق والبيئة التاريخية صعبة جعلت الروائي يتخبط ويُشدّ نحو جوانب أخرى تذكر العزاوي "إن بيئتنا جعلتنا نكتب عن الحرب والواقع الاجتماعي الذي خلفته الحروب، وهذا أخذ الجانب الاكبر من أعمالنا الادبية وحال دون أخذ المادة التاريخية مساحتها الكاملة فالمشكلات والأزمات باتت تشد القاص الى جانب آخر رغم ان لدينا اسماء قادرة على كتابة رواية تاريخية مميزة."
هذه الموضوعة وبحسب ما وصفها الروائي محمد حياوي "تحيلنا الى إشكالية ثيميّة تسمى في الغرب fiction و non-، أي روايات الخيال المطلق والروايات الواقعية غير الخيالية، التي تدخل ضمنها ما يسمى عندنا "الرواية التاريخية أو الخيال التاريخي"، وهي نوع أدبي يستند مضمونه إلى أحداث أو شخصيات معينة في التاريخ، لكن يتم إنتاج شخصياته من جديد بواسطة خيال الكاتب، اما لتسليط الضوء عليها بواسطة الأدب وتوضيحها أو بغية تقديم المعلومة التاريخية بشكل أدبي جديد."
الخيال المطلق الذي يتمثل الواقع، فهو يبدو واقعياً نظراً للأحداث والشخصيات ـ التي يمكن تصديقها ـ والتي تشكل جزءاً محورياً من القصة، أي أنّ هذه القصص معقولة للغاية، لكنّها من جهة اخرى خيال مطلق أبطاله شخصيات لم تكن موجودة أبداً وأحداثها لم تحدث أبداً. ويشير حياوي قائلاً "يروي كتّاب الخيال ـ الواقعي ـ المطلق قصة يمكن أن تكون قد حدثت، ولكنها في الحقيقة لم تحدث، إذ يجسد الكاتب وضعاً يشبه حدثًاً تاريخياً فعلياً ولكنه لم يحدث أبداً. مما يجعل القصة معقولة ومثيرة للاهتمام."
بعد أن أوضح لنا حياوي ماهية الرواية التاريخية ذكر ما يتعلق بعدم تناول الروائيين العراقيين لأحداث تاريخية تنعكس على الواقع العراقي الحالي، فأن الأمر يتمحور في تصنيفين أثنين، الأوّل هو استلهام بعض الأحداث التاريخية وتقديمها بطريقة أدبية مشوقة لإعادة قراءتها من قبل القارئ المعاصر وترسيخها في ذهنه، كما هو الأمر في أدب جرجي زيدان، والثاني هو استدعاء بعض الشخصيات التاريخية وإعادة تقديمها بطريقة مغايرة، أي ابتكار حياة ثانية لها كما يتخيّلها المؤلف، كما هو الأمر في رواية "موت صغير". ولعل عزوف الكتّاب العراقيين عن دخول هذا المضمار يعود لابتعاد كلا النوعين عن عملية الخلق المطلق التي تستند إلى قوّة الخيال الساحقة في ابتكار عوالم كاملة بديلة من شأنها محاكاة الواقع وتجاوزه، وطالما اعتقدت أن وظيفة الأدب الحقيقي تتلخص في الإدهاش والمتعة وتحفيز القارئ على عملية التخيّل والحلم والمشاركة في صنع الأحداث والوقائع الخيالية، وليس تدوين التاريخ أو إعادة تدوينه ومصادرة البعد العفوي لعملية الخلق."
لو تتبعنا تطور الرواية العراقية تحديداً ما بعد 2003 بكل تجلياتها الفنية والثيمية سنجد أن هناك ميل وتوجه شبه عام لدى أغلب الروائيين العراقيين لتوثيق وسرد الأحداث المعاصرة أو القريبة زمنياً من 2003، يتحدث الناقد حيدر جمعة العابدي عن غياب الرواية التاريخية التي تتحدث عن أحداث تاريخية بعيدة عن الادبيات العراقية، ويقول العابدي "هنالك غياب واضح لنوع وجنس الرواية ذات الأحداث التاريخية التي ترتبط بأحداث ذات سياق تاريخي متأخر زمانياً ومكانياً لكنها لا تزال تشكل حضوراً في الذاكرة الجمعية ولو اعتمدنا الموضوعية في وضع تصور دقيق لها سنجد: أنها النوع الروائي الذي يرتكز في بنيته المعمارية الفنية والثيمية الموضوعية على استدعاء أحداث الماضي ( التأريخ ) في قلب الحاضر( المعاش) كما في روايات عالمية وعربية كثيرة أبرزها قواعد العشق الأربعون لـ (أليف شافاك). ولو بحثنا عن سبب هذا الغياب شبه التام للرواية ذات الأحداث التاريخية سنكتشف أن الروائي أو السارد العراقي مسكون بهاجس اضطررت المكان والزمان المعاش بكل تمثلاته السياسية والاجتماعية والنفسية الجسيمة والضاغطة على تصوراته للحياة من حوله خصوصاً ما بعد 2003 حيث شكلت الأحداث فعل الصدمة اتجاه تطلعاته وهمومه وهو ما دفعه في الانهماك أن جاز التعبير في البحث خلف أسباب هذا التداعي النفسي والفكري الذي بات يشكل بنية ونسق ثقافياً حاكماً ومهيمناً وهو ما كشف عن غياب هذا التنوع الفني للانواع الروائية الأخرى بإستثناء بعض الأعمال القليلة مثل عجائب بغداد ، وأحمر حانة ."
وبات من الضروري اليوم خصوصاً في ظل النجاحات التي تحققها الرواية العراقية في الداخل والخارج إلى الاتفات إلى أهمية التنوع الفني والمعماري داخل المتن الروائي العراقي لتعزيز هذه المكانة وتدعيم تطوراتها.