TOP

جريدة المدى > عام > نوري بليجي جيلان أو سينما المواقف الانسانية

نوري بليجي جيلان أو سينما المواقف الانسانية

نشر في: 30 مايو, 2018: 06:34 م

محمد صباح

2-2

من ثم يعود بعد ثلاث سنين عام 1999 ليقدم فيلم"Clouds of may"هنا يقدم خلطة يمزج بها روح عباس كايرستمي حين صنع عبر اشجار الزيتون و روح تشيخوف التي ستكون مركز كل أفلامه الأكثر احترافا التالية , وهو الفلم المهدى الى روح تشيخوف. 

في غيوم مايو جيلان المتجسد بشخصية مظفر العائد من العاصمة اسطنبول الى قريته الاناضولية , ليصنع فيلمه الاول"kasaba" هنا جيلان لن ينغمس بذاتيته الفنية ويعرض هلوسات و مصاعب صناعة الفيلم كما اغلب الصناع الذين صنعوا عن صعوبة صناعتهم لأعمالهم , تتحول حكاية صناعة الفيلم الى خلفية تشكل دوافع الشخصيات أي مظفر الذي سيجد نفسه متورطاً بشخصية صادق الضائعة الذي سيجده الأخير منفذاً له لكي يعود معه لأسطنبول ليعمل هناك . مظفر الذي سيجد والده يخوض قضية مع الحكومة المحلية بعدم قص أشجاره , الرجل الذي يحاول أن يبقي على الجمال , مشاكل والدة مظفر الصحية كل هذه الحكايات و الهموم تتشابك في وجه مظفر الذي يريد اقناع افراد عائلته ليساعدوه بصناعه فيلمه , هنا يقدم جيلان ليس احتفاء بالذات الفنية إنما نقداً للذات وكيف تتحول عملية صنع الفن الى لا انسانية حيث لا يهم مظفر سوى صنع فلمه. غيوم مايو عمل نقد الذات و مراقبة الآخرين .
يعود جيلان مرة أخيرة ليختم الثلاثية الذاتية عام 2002 بفيلم"distant" فلم بعيد هو بيان في اكتمال التجربة والنضج الفني لجيلان , صوره جيلان بنفسه بسينمغورافيا خلابة امتصت عدسته من خلال لقطاته البعيدة والطويلة جمال اسطنبول الغارقة بالثلوج والنفوس التي تغلي من الداخل بالعذابات والنكسات والصراعات النفسية التي تبحث عن معنى وسط فوضى ضياعها. بعيد كوميديا مدنية أيضاً , بعيد نظرة بانورامية للمدينة ومأزق شخوصها , بعيد عن بعد العلاقات والمسافات , بين محمود الذي يصور اعلانات تجارية، الذي تخلى عن شغفه بصناعة الافلام، محمود الغارق بالوحدة والانكسار الذي يستبدل فيلم ملهمه تاركوفيسكي بفلم بورنو , ويوسف الذي تم تسريحه عن العمل والقادم الى العاصمة ليسكن عند محمود ويبحث عن عمل آخر يعيل به عائلته في القرية , بعيد ينهي مسيرة جيلان الذاتية بنهاية تراجيدية بالنسبة له حين سيموت نسيبه والبطل بشخصية يوسف قبل أن يتم عرض الفيلم بكان ويتحصل على احد جوائز المهرجان الكبرى.
عام 2006 يقدم جيلان هذه المرة ليس فقط بوصفة مؤلفاً لما ينتجه من كتابه واخراج وتوليف انما يقف أمام الكاميرة هو وزجته. بفيلم مناخات يخوض جيلان بمأزق العلاقات العاطفية , عن حبيبين , قد استهلكا كل ما فيهم , الى حد أن احدهم يكاد يقطع أنفاس الآخر , جيلان لا يقدم حلولاً او تحليلاً , إنما الاصالة والصدق بأظهار الشرط الانساني ومصير العلاقات البشرية , وهذه هي حكاية مناخات , ان لكل مناخ يوازيه مناخ متغير بالنفس البشرية كما الطبيعة نفسها..
"بمقدار ما تعود بي الذاكرة الى الوراء، أذكر أنني دائماً ما حيّرني الطيف العريض، في شكل لا يصدق، الذي تتمثل به الروح البشرية، حيّرني وبهرني وأرعبني أيضاً. دائماً ما أدهشني ذلك التعايش، داخل روح الإنسان، بين حبه للسلطة وقدرته على الغفران. واهتمام تلك الروح في الوقت نفسه بالأمور الأكثر قداسة، كما بالأمور الأكثر عادية. بالحب كما بالكراهية...".
هذا ما قاله جيلان عام 2008 حين عرض فيلمه بمهرجان كان والذي حصل عنه جائزة الاخراج , فلم ثلاث قرود , هو مثل سائد في تركيا حيث إن أفيشت سراً لأحدهم ولا تريد منه أن يقوله لأحد آخر , سيقول لك ثلاث قرود , وهي إشارة واضحة لتمثال القرود الثلاثة الشهير حيث تعني"لا أسمع لا أتكلم لا أرى" في ثلاث قرود يغوص جيلان بحرفية غير مسبوقة وتمكن من الادوات الاخراجية من السبر عميقاً بغور الشخوص وكشف الحياة الداخلية لعائلة تركية فقيرة ورجل سياسي يعمل رب العائلة الفقيرة سائق عنده , انها دراما قاتمة وهائلة بصرياً وتأملية كما كل سينما جيلان , انها عن تركيا اليوم او بالأحرى انها حكاية كل مدن العالم الحديث اليوم وفي كل يوم من الازمان , بما ان صراع الطبقات و الذات و العيش و السلطة هي كما هي في كل مجتمع بشري..
عن قصة حقيقية رواها له صديقه الطبيب , يبني جيلان حكاية مكان و شخوص , حيث هنا في حدث ذات مرة في الاناضول , يتخذ جيلان أسلوبية مغايرة , ينقل استاتيكيته لفيلم طريق ’ حيث البحث عن جثة مدفونة قرب احدى ينابيع تلال الاناضول , قاتل و محقق و طبيب وقائد شرطة , ينطلقون برحلة البحث الليلية , انها رحلة ليس فقط عن حفر الارض لأخراج الجثة , انما رحلة باطنية للشخوص وماضي كل واحد منهم .
جاء الاعتراف الاكبر بأن جيلان هو أحد أهم المؤلفين السينمائيين المعاصرين بعد تتويج"البيات الشتوي"بالسعفة الذهب , ثلاث ساعات وربع تقريباً , يقحم جيلان شخوصه المكتوبه بروح الادب الروسي من جديد تشيخوف و ديستوفيسكي تحديداً, داخل غرف الفندق الصخري الذي يملكه عايدين الانسان المتثاقف , بحوارت طويلة يكسر بها نمطية كل اسلوبيته السابقة من غير ان يتغير السحر البصري والحنكة والاحكام على كل فريم يصنعه جيلان , البيات الشتوي من جديد يعيد جيلان فتح ونكئ الجروح في المجتمع التركي المعاصر , يتمركز حول الطبقية , بين كبرياء الفقير و لا مبالاه الغني والمثقف , يثير عاصفة من الاسئلة ومواجهات الذات , دراما ملحمية عن سؤال الضمير , وخداع النفس و المسؤولية الانسانية لكل منا , اين العظيم بسينما جيلان عندما يقدم موضوعات تم استهلاكها او الخوض بها سابقاً؟ الجواب الشغف والحب و الإجادة العظيمة التي يصنع بها الفن , سينما نقية تكشف و تحرق نفسها من أجل أن تُظهر أغوار النفس من غير ان تقدم للمشاهد العبرة أو الرسالة , سينما نقد الذات والآخر التي يرافقها الجمال البصري والروح الفنية الهائلة ’ انها سينما نوري بلجي جيلان...

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

إردوغان عن دعوة أوجلان إلى إلقاء السلاح: "فرصة تاريخية"

ترامب: زيلينسكي غير مستعد للسلام

حكمان عراقيان لقيادة نهائي كأس آسيا للشباب في الصين

إيران تعلن الأحد المقبل أول أيام شهر رمضان

وزير الكهرباء الأسبق: استيراد الغاز من إيران أفضل الخيارات

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

الكشف عن الأسباب والمصائر الغريبة للكاتبات

موسيقى الاحد: عميدة الموسيقيين

النقد الأدبي من النص إلى الشاشة

النوبة الفنيّة أو متلازمة ستاندال

صورة الحياة وتحديات الكتابة من منظور راينر ماريا ريلكه

مقالات ذات صلة

علاقة الوعي بالمعنى والغاية في حياتنا
عام

علاقة الوعي بالمعنى والغاية في حياتنا

ماكس تِغمارك* ترجمة وتقديم: لطفية الدليمي بين كلّ الكلمات التي أعرفُها ليس منْ كلمة واحدة لها القدرة على جعل الزبد يرغو على أفواه زملائي المستثارين بمشاعر متضاربة مثل الكلمة التي أنا على وشك التفوّه...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram