TOP

جريدة المدى > عام > معنى أن تكون أميناً

معنى أن تكون أميناً

نشر في: 2 يونيو, 2018: 05:46 م

 ياسين طه حافظ

أظننا اليوم جميعاً، غادرنا تلك التعاليم الساذجة للاستقامة وللانسجام السليم مع العالم. صار للكلمات: صدق، أمانة ، حق ... معان أوسع ولها عمق آخر وإن على درجات بين ثقافة و ثقافة . ومن هذه المفردات التي غادرت الوعاظ غاضبة أو ساخرة، كلمة الامانة وأن يكون الفرد اميناً. ثقافة العصر الفكرية توقفنا بعد الخطوات الاولى لتسألنا: ما معنى ان تكون اميناً؟ أن أعمل صواباً مع من أحب واحترم. حسناً لكني حين أعمل خطأً، حين أصر، حين أقوم بفعل، كنت أرى نفسي أميناً على مصلحته أو على راحة الناس وسلامهم أو على ما أراه هو الصواب. ولأوقف الخطأ او الشر. ثمة قوانين عامة وأعراف؟ حسناً لكن التحولات في التاريخ والمجتمعات حصلت بالخروج على القوانين والاعراف. ثم أنا أعمل هذا العمل أو أسلك هذا السلوك لأني مؤمن بصوابه ولأني أمين على نفسي. والأمانة على خصوصيات ومنافع غيري تقتضيني أن أبعدهم أو أبعد الأضرار عنهم. أنا في حال كهذه أمين عليهم. أرى نفسي أميناً عليهم وعلى مستقبلهم. أليس هذا منطق الانبياء الاجلاء وهو منطق الدكتاتوريين والحكام الاشرار أيضاً؟ كيف حصل مثل هذا التوافق لولا ارتباك المعنى؟
حسناً يبدو اني سأنزلق الى متاهة تحتاج الى عدة عقول لمناقشتها. فلأبقَ ضمن حدود العالم الذي أنا أعمل فيه. أعني في حدود الكتابة وأن أكون أميناً. ما معنى أن أكون أميناً هنا؟ على مشاعر الناس؟ لكنني، كاتباً، هكذا أحس بها. وإن كنت مقصراً، فانا لا أبدو كذلك لنفسي. وفي الحالين، النتيجة إني كنت اميناً على ما في نفسي، على ما رأيت وما احسست به. وما تنكره قد يرتضيه سواك، إن لم يكن الآن ففيما بعد. ألم تحقق كتب مزدراة أو مدانة نجاحاً وتكريماً في أزمنة أخرى؟ مرة قال لي صديق ناقد: "لم أفهم عبارتك هذه". ولكنها كانت واضحة لي. النقص ليس في الأمانة إن كان الأمر كذلك. ربما في القدرة على الافصاح. لكن هل هي غير واضحة لآخرين أيضاً؟ وما أقول بمن أعجب بها واتخذها شاهداً في كتابته؟ وهل اجلالي، في مقالة او قصيدة، لامرأة "خاطئة"، كما يرونها سيواجه الاعتراض نفسه في مجتمع تقدمت فيه كثيراً الحركات النسوية وتغير المنظور الاجتماعي؟ هل لم اكن أميناً ؟ اقرأ كتابات شعرية اراها كوم مفردات مختلطة المعاني، او بلا معنى. النص ليس كما أراه بالنسبة لمن كتبه. كان في ذهنه واضحاً وكل شيء بيّن ودال. وكانت تلك المشتبكات واضحة معبرة بالنسبة له. وهذا لا يقتصر على الكُتاب او الشعراء الناشئين، الم يختلف المفسرون على نص مقدس وجُرِّمَ بعض من قالوا بمعنى صادم، وثمة منهم من كان أكثر هدوءاً، فلم يرَ ذلك التفسير صواباً لكنه ينم عن جهالة فيما قبله وبعده. وما معنى العبارة التي تتكرر على الألسن: " لا يبدو إنه يقصد ذلك" ؟ هي عبارة عاقلة على أية حال وتترك فرصة، سماحاً، للتردد قليلاً قبل الحسم. ثم من الذي يحدد بدقة نهائية معنى عبارة ما والثقافات مختلفة والامزجة مختلفة وما نحمل من الموروث متناقض مختلف؟ يتوقف استاذنا ايغلتون عند عبارة "ضع النفايات خارجا" ماذا تعني؟ المعاني متعددة. قد تكون نفايات حقيقية ونبعدها الى حيث القمامة او الى خارج المنزل او الغرفة. لكنها قد تعني دع هذه المسائل التافهة وتوجه الى هدفك. هل ثمة ما يشير الى ان على المرء ان يفتح طريقا صعبا أو مُكلِفاً ويزيح الاسماء الهزيلة قاصدا المكانة التي يستحقها بدلاً من أولاء الذين يراهم أسماءً مصنوعة غير جديرة ... ؟
من يقرر بعد هذا أن كان الكاتب أميناً على الحال أو هو غير أمين؟ والآن لنبتعد الى مثال أكبر. نحن نعرف الكوميديا الالهية او كوميديا دانتي. هل كان أمينا فيها حين ألقى بكل خصومه ومن يختلف معهم في الرأي والعقيدة، ألقاهم جميعاً في الجحيم. هل كان أميناً في عمله هذا ؟ ألم نأسف على حال بعضهم في الجحيم ونحن نراهم أخيارا ونراه كان منتقما أراد أن يشفي غليله من خصومه السياسيين والشعراء واصحاب الفكر والعقائد ممن خالفوه أو من يخالفهم هو في المنظور السياسي والفكري ؟ هل كان أميناً ؟ نعم بالنسبة له . لا بالنسبة لنا. وهذا الحكم يتغير بين نوع من القراء وآخر وبين دارس أدب وفكر وآخر. "إن الارتياب في أن مؤلفاً في وسعه أن يكون مسيطراً سيطرةً تامةً على معانيه، لا يعني أن الاعمال الادبية يمكن ان تعني كل ما يريد القارئ.. " لكن، من هو القارئ؟ القارئ ليس واحداً.
والآن سأورد مثلاً آخر .. نعرف أوديب. حسنا أنا الآن أسأل سؤالاً يبدو غريباً .. من قال أن أوديب فقأ عينيه بعد أن تزوج من أمه؟ وقبل هذا من قال أنه كان في منفى؟ وهل كان المنفى حقيقياً أم استعارياً؟ قد يكون مجازياً. وفقع عينيه، مجاز آخر. قد يكون المعنى فقد البصيرة. قليلٌ من التقديم والتأخير، يغير القصة بكاملها. العمل مستنكَرٌ . هذا هو ما وراء تحول اتجاه الاحداث والتفاسير. كيف نفهم النص الأدبي، نرى ما وراءه ومدى امانة الكاتب؟ هي اعسر المطالب!
لكن العمل شعري. "اللغة في الشعر هي الحقيقة ذاتها وليست واسطة لشيء والتجربة المهمة هي تجربة القصيدة. اما المشاعر والافكار فهي مرتبطة بالكلمات..."
حسناً، إذاً لتبقَ النصوص كما هي. كلٌ يجد ما يحب. وليخرج منها بسلام أن لم يجد غايته أو ما يريد. يبقى عليه شيء هو أن يتذكر إن التأليف، تأليف النص، لا يكون جديداً ومثيراً من غير أن يجيد اختراقات ما ألفناه من الكلمات والأشياء...

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

إردوغان عن دعوة أوجلان إلى إلقاء السلاح: "فرصة تاريخية"

ترامب: زيلينسكي غير مستعد للسلام

حكمان عراقيان لقيادة نهائي كأس آسيا للشباب في الصين

إيران تعلن الأحد المقبل أول أيام شهر رمضان

وزير الكهرباء الأسبق: استيراد الغاز من إيران أفضل الخيارات

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

الكشف عن الأسباب والمصائر الغريبة للكاتبات

موسيقى الاحد: عميدة الموسيقيين

النقد الأدبي من النص إلى الشاشة

النوبة الفنيّة أو متلازمة ستاندال

صورة الحياة وتحديات الكتابة من منظور راينر ماريا ريلكه

مقالات ذات صلة

علاقة الوعي بالمعنى والغاية في حياتنا
عام

علاقة الوعي بالمعنى والغاية في حياتنا

ماكس تِغمارك* ترجمة وتقديم: لطفية الدليمي بين كلّ الكلمات التي أعرفُها ليس منْ كلمة واحدة لها القدرة على جعل الزبد يرغو على أفواه زملائي المستثارين بمشاعر متضاربة مثل الكلمة التي أنا على وشك التفوّه...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram