ثلاثية الجنس.. الدين .. السياسة
| 1 |
علــي حســين
كتب وصيته قبل موته بعشرة أعوام، وطالب بأن يوضع جثمانه في تابوت مغلف بالحديد، يظل مفتوحاً لمدة يومين كاملين، ثم ينقل بعد ذلك الى أطراف احدى الغابات ليدفن تحت شجرة بلوط، وألا يقام مجلس عزاء له، ولم يتحقق للماركيز دي ساد ما أراد، فعندما توفي في الثاني من كانون الأول عام 1814 في إحدى المصحات العقلية، أصرّ معارفه أن يقيموا طقوساً مسيحية لجنازته، وقد كلفت طقوس دفنه 75 جنيهاً. ولم تمض أيام حتى قام عدد من الاشخاص بفتح القبر وسرقة جمجمة دي ساد، لتنقل الى المانيا حيث اشترتها مجموعة تؤمن بالسحر، كانت تعتقد إن الماركيز واحد من كبار السحرة في العالم.
في العام 1801 تقع بيد نابليون بونابرت نسخة من رواية بعنوان"جوستين"كان مؤلفها قد كتبها في السجن عام 1987 عندما كان معتقلاً بتهمة نشر الرذيلة، وقد أثارت الرواية التي لم تتعد صفحاتها الـ180 صفحة في نسختها الأولى اشمئزاز الامبراطور الذي وصفها بأنها"أوضع كتاب ظهر على الإطلاق بخياله المنحرف المريض".. فأصدر أمراً بإلقاء القبض على مؤلفها"الماركيز دي ساد"حيث أودع السجن دون محاكمة ولم يخرج منه إلا الى المصحة التي توفى فيها بعد ثلاثة عشر عاماً.
عندما نشرت جوستين عام 1791 استقبلها القراء بنفور، واتُهمت بالإباحية، لكن كثيرين يرونها اليوم واحدة من الأعمال الكلاسيكية في الأدب، خصوصاً بعد أن أضاف لها الماركيز دي ساد حكاية شقيقتها جولييت، كتبها في أقل من أسبوعين، ويروي فيها حكاية الفتاة جوستين ابنة مصرفي أفلس، مات وترك ابنتان هما جوستين وجوليت، وتجد جوستين نفسها في مجتمع يشجع على الرذيلة، إلا أنها ترفض العيش فيه، بينما نجد اختها جوليت تقيم علاقات مع المشاهير والسياسيين، وتقع في حبها مع الرجل الثاني في الدولة لتكمل إشباع نفسها بالمال والسلطة.
أما جوستين، فقد قررت أن تسلك طريقا آخر،، وتبحث عن عمل، لكنها تقع في يد صاحبة دير، لتغويها بخدمة رجل غني وتفاجأ بنزواته الجنسية، فتهرب مرة أخرى، لتعمل مدة ثلاث سنوات عند تاجر بخيل مقتر، يلفق لها تهمة سرقة عقد من الماس، فتدخل السجن للمرة الأولى، وتتعرف على سجينة تخطط للهروب فتحرق السجن وتهرب معها، وتقع في يد عصابة تديرها المرأة التي عرفتها بالسجن، وتشركها في الجرائم.
لكنها تعطف على الرجل الذي يسرقون ماله، وتتمكن من فكّ أسره وإعادة المال إليه، وتهرب معه، لكنه يغتصبها في الغابة وينتهي إيمانها بالفضيلة. وهكذا تسوقها الأقدار للعمل عند رجل شاذ، هو وخادمه. يحاول إغراءها بالمال بعد خمس سنوات، لتقتل عمّته الغنية التي تسكن معه، فيكتشف خيانتها، وتتخلص منه بعد تعذيبه لها. وتقع بين يدي طبيب وتكتشف جريمته وإقدامه على حبس ابنته لترويعها، وتحاول مساعدتها ولكنه يمسكها ويعذبها.وتخوض جوستين غمار الحياة، وتتفتح أمامها آفاق الأمل عندما ترى كنيسة نائية، تتوجه إليها، أملاً بالخلاص من العذاب، وتصلها ليلاً وقد أغلقت الكنيسة أبوابها، وتطلب من الخادم أن يساعدها، فيأتيها الأب، ويستمع إليها، من ثم يطمئنها ويطلب منها أن تتبعه. ولكنه ما أن يبتعد قليلاً حتى يناديها بـ"العاهرة"،ويدخلها إلى زاوية آمنة، لتجد الآباء الأربعة في الكنيسة، وتبدأ معاناتها من جديد. وتعثر هناك على فتيات أخريات وقعن في فخ الآباء الفاجرين.
تهرب بطريقتها لتقع بين يدي الرجل الذي يستمتع بمرأى الدم يسيل من زوجته، وتكون هي مساعدة لزوجته، فتحاول الإبلاغ عنها لتجدها مسجونة معذبة، وتهرب بعدها لتوقعها الأقدار في يد الرجل الذي اغتصبها المرة الأولى، وقد أصبح تاجراً للرقيق، أو بمعنى آخر للفتيات الأبكار، وتخرج منه لتنقذ رجلاً مصاباً فتصبح سجينته ويعذبها.
هكذا يأخذ الكاتب قارئه في سلسلة من قصص التعذيب والعنف والجنس والشذوذ، لكي نتعرف بعد ذلك على فلسفة الماركيز دي ساد التي تتلخص في أن الإنسان عبد لغرائزه.
في إحدى مقالاته يكتب فولتير :"الكتب تشتت الجهل، هذا الحارس الأمين والضامن الحريص للدول ذات الأنظمة البوليسية".لم تكن الرقابة على الكتب وليدة العصور الحديثة، وتاريخ القراءة مملوء بالكتب التي طاردتها اللعنة وتم تجريم أصحابها، ففي نهاية القرن الرابع قبل الميلاد حاول الفيلسوف أفلاطون أن يمارس دور الرقيب، فطالب من تلامذته أن لايقتربوا من أشعار هوميروس لما تحويه من البذاءات، وبسبب قصديته الشهيرة"فن الحب"تعرض الشاعر الروماني أوفيد الى المطاردة والنفي. كان أوفيد يقول إن الهدف من قصيدته تلقين الحب لمن ليس له خبرة أو دراية به :"فالعشق مهارة ينبغي على الإنسان حذقها وإتقانها شأنها شأن سائر المهارات مثل التجديف والملاحة"، ويذهب أوفيد أبعد من ذلك حين يضع عدداً من النصائح الجنسية التي على المرأة أتباعها، وقد ظل كتاب أوفيد ممنوعاً حتى عام 1920، حين أصدرت دائرة البريد الاميركية أمراً بمنع دخول نسخ من الكتاب الى الولايات المتحدة.
يكتب الماركيز دي ساد في مقال بعنوان"فكرة حول الروايات"إن"الروائي هو ابن الطبيعة، ورسالته أن يصف العالم كما هو ويمتد بخياله الى جميع الآفاق التي يمكن أن ترتادها تجربة الإنسان. ومن أجل هذا فهو يحب الحياة ويحرص على كل نبضة في أشيائها وإحيائها. إن الاحمق يقطف الوردة وينثر أوراقها، أما العبقري فإنه يتنسم عبيرها ويصورها وهذا ما يفعل الروائي".
*********
كان في السبعين من عمره عندما وقف أمام القضاة، بتهمة عدم احترامه ألهة المدينة والسعي لإفساد عقول الشباب وتأليب الأبناء على آبائهم..وأمام المحكمة التي تشكلت من خمسة أعضاء، قال سقراط إنه سمع صوتاً الهياً بداخله وإن هذا الصوت أشبه بالضمير الذي يشير إليه بما هو صائب.. فالذي يعرف الخير يفعل الخير. وإن الرؤية الصحيحة للأشياء تقود إلى الأفعال الصحيحة، فالذي يفعل الصواب هو فقط الذي يستحق تسمية"الإنسان الصحيح"، وعندما نتصرف بشكل سيئ، فذاك لأننا على خطأ. لذلك يصبح من المهم السعي الى الحصول على المعرفة الكاملة.. يكتب هنري برجسون إن"سقراط يعطي تعاليمه لأن كاهنة دلفي كانت قد تكلمت، لقد تلقى منها رسالة، وهو فقير. وعليه أن يظل فقيراً ويجب عليه أن ينخرط في صفوف الشعب وأن يصنع من نفسه شعباً وان تكون لغته هي لغة الطبقات الشعبية.إنه لم يكتب شيئاً وذلك لكي تتلقى أفكاره الحية مع العقول التي ستنقلها إلى عقول أخرى".
العام 399 ق.م، تقدم أحد أعيان أثينا ويدعى ميليتوس بعريضة الى المحكمة يطالب فيها باعدام سقراط وكان الاتهام كالآتي :"أنا ميليتوس بن ميليتيوس أتهم سقراط بن سوفونيسك بارتكابه جرائم بحق الألهه، مكوناً بذلك خطراً عظيماً على الجيل الصاعد".كان ميليتوس يعمل تاجراً للجلود، جرب أن يصبح شاعراً ففشل، ويشبّه هيغل سقراط بالذبابة التي تزعج الآخرين اثناء نومهم الكسول، الذبابة التي كانت تمنعهم من الراحة والإطمئنان إلى حلولهم الأخلاقية، الاجتماعية الجاهزة التي اعتمدوها في حياتهم، لقد كان بالنسبة لهم النقيض المزعج للراحة الفكرية والضمير الوادع.. لقد كان اسئلته وإجاباته مصدر شقاء للسعادة المطمئنة الساذجة.وقد كان سقراط في بعض الأحيان حاداً في توجيه اللوم لسكان أثينا الذين يجب عليهم أن :"يشعروا بالخزي والخجل من انشغالهم بجمع أكبر قدر ممكن من المال وببناء السمعة الحسنة والشرف والإنصراف عن الانشغال بالحقيقة وبكمال الروح".
كانت المحكمة التي سيق إليها سقراط عبارة عن مبنى ضخم بمقاعد خشبية للمحلفين ومنصة للادعاء العام، ومكان يقف فيه محامي الدفاع. المحكمة التي حضرها 500 مواطن شكلوا هيئة المحلفين، بدأ فيها الإدعاء بإثارة قضية : من"ان هذا الذي يدعي الفلسفة والماثل أمام المحكمة رجلاً شريراً، يشكك في الأشياء التي تحت الأرض وفي السماء، عدا كونه مارس تأثيراً فاسداً على الشباب". كانت هيئة المحلفين قد جاءت محملة بآراء ضد سقراط، كانوا قد تأثروا بما يقال أن هذا الرجل الرث الثياب قد لعب دوراً في الكوارث التي حلت بالمدينة، ولهذا أدرك سقراط منذ البداية عدم وجود فرصة للنجاة أمامه، ورغم أنه كان يمكنه التراجع عن أفكاره وإعلان التوبة وإنقاذ حياته، لكنه رفض مثل هذه الفرصة :"أشك إنكم ستستيقطون من سباتكم في وقت قريب، وستلتجؤون بفعل انزعاجكم الى نصيحة ميليتوس لتنهوا حياتي بضربة واحدة، ثم ستعاودون سباتكم". عندما طلب القاضي حكماً نهائياً صوت 360 عضواً من المحلفين لصالح إعدام الفيلسوف. عاد المحلفون سعداء الى بيوتهم بعد أن قبض كل واحد منهم على أجر مناسب، فيما أودِع المحكوم عليه في السجن بانتظار تنفيذ الحكم.
في العام 1559 م دخل الأدب حيز الرقباء، فقبل ذلك كان عمل الرقابة يقتصر على الكتب التي تخالف العقائد الدينية،، ففي عام 1557، طالب أحد القساوسة بحظر كتاب"الديكاميرون"لبوكاشيو، فوجد الامبراطور بيوس الخامس إن الأمر مضحك لأن الكتب الأدبية :"لاتقرأ على أساس كونها أشياء يجب الاعتقاد فيها، بل كخرافات"لكن بعد ذلك بعامين صدرت الأوامر بإعادة تنقيح نسخة الديكاميرون قبل إعادة نشرها من جديد فقد نصت التوجيهات الإمبراطورية على إنه :"غير المسموح بأية طريقة كانت، التحدث بشكل سيئ أو مخجل عن الرهبان، والأساقفة، أو عن موضوعات أخرى مقدسة، ويتحتم تغييرالاسماء والتدخل بأي طريقة أخرى تبدو أفضل"، في العام 1588 أصدرت الكنيسة أمراً بمنع طبع الكتاب ومنعه من التداول لاحتوائه على حكايات ونوادر ووصفات لتصرفات جنسية، تشجع على التحرر من المحظور، وتنبه العامة الى أساليب محرمة وممنوعة، ولعل حكاية جيوفانى بوكاشيو كانت أيضاً مليئة بالغرائب مثل كتابه الدكاميرون، فهو ابن غير شرعي لبوكاشيو دي تشبلينو، أحد تجار ايطاليا، وفتاة فرنسية. ولد في باريس عام 1313، وأمضى سنوات شبابه في مدينة نابولي يعمل في تجارة والده وفي الوقت نفسه يدرس القانون. في تلك الفترة قرأ هوميروس فهام به، وحفظ أشعار فيرجيل وأوفيد. وفي نابولي وقع في حب ماريا داكوينو، وهي التي عرفها القراء فيما بعد باسم"فياميتا"والتي أصبحت الشخصية النسائية الرئيسة في عمله الكبير"الديكاميرون"حيث يصف لنا مغامراته العاطفية والجنسية معها. وبعد علاقة دامت أكثر من عشر سنوات أصيبت"ماريا"بمرض الطاعون،. وبعد وفاتها يقرر أن يتفرغ للادب فيذهب في رحلة لزيارة قبري هوميروس وفرجيل، حيث ينذر أمامهما نفسه للأدب. وفي ذكرى وفاة محبوبته، يبدأ بكتابة"الديكاميرون"يروي فيه ذكرى الطاعون الخبيث الذي مايزال عالقاً في ذاكرته، من خلال حكاية ابطالها ثلاثة من الرجال وسبع نساء يهربون خارج مدينة فلورنسا، خوفاً من الطاعون، حيث يصلون الى مكان آمن، لكنهم لا يجدون ما يفعلون فيقضون الوقت برواية الحكايات فيما بينهم، و خلال عشرة أيام يروي كل واحد منهم عشر حكايات، ليكون مجموع الحكايات مئة حكاية، حيت يستخدم بوكاشيو فعل رواية الحكاية للهروب من خطر الطاعون الحكي درءا للخطر والموت، والرجال الثلاثة هم ثلاث وجوه لشخصية واحدة هي شخصية المؤلف بوكاشيو، والنساء السبع صور متفرقة لحبيباته وأبرزهن ماريا التي أحبها أكثر من غيرها،. ولعل كتاب الديكاميرون أول كتاب أدبي فاضح يعرف الطباعة، طبع عام 1371، فقبله كانت مثل هذه الأعمال لا تعدو أن تكون مخطوطات محدودة الانتشار.
********
إضافة الى الكتب الادبية التي كانت تتناول موضوعة الجنس والدين، قررت الكنيسة أن تضع الكتب العلمية تحت مقصلة الرقابة ايضا، حيث تم منع العديد من الكتب الفلسفية والعلمية، ففي عام 1616 صدر قرار بحظر كتب كوبرنيكوس، كان كتاب"ثورة الاجرام السماوية"لكوبرنيكوس قد صدر عام 1543 وتم تداوله لعقود طويلة بحرية، حتى جاء عام 1615 حيث اصدر الايطالي باولو انطونيو كتابه"خطاب حول أفكار الفيثاغوريين وكوبرنيكوس"وفيه يؤيد نظرية مركزية الشمس، مما أثار انتباه الكنيسة والتي استخدمته في الخامس من آذار عام 1616 كحجة لفرض الحظر على كل مؤلف سابق وحاضر ومستقبلي، في العام 1610 أذاع صدور كتاب"رسول من النجوم"وهو حصيلة الملاحظات الفلكية التي قام بها غاليلو بواسطة تلسكوب من اختراعه، اعتراضات علماء اللاهوت، وقد ازعجتهم أن ينشر كتاب يعارض النص المقدس، وقد طلبت الكنيسة من غاليلو أن يتوقف عن نشر أفكاره التي تتعارض مع الكتاب المقدس، لكنه لم يمتثل للأمر. وفي النهاية استدعي الى المحكمة التي عقدتها الكنيسة وهناك عرضت عليه أدوات التعذيب، ثم طلب منهم نفي النظرية التي تقول أن الارض تدور حول الشمس، فأذعن.كان غاليلو قد تجاوز السبعين من عمره حين فرضت عليه أقامة جبرية في منزله ليصاب بالعمى.
في نفس العام الذي تم فيه محاكمة غاليلو كان رينيه ديكارت ينوي نشر أول كتبه"انسجام العالم"لكنه في اللحظات الأخيرة يقرر إتلاف الكتاب ويقول لأحد مقربيه :"ليس من الحكمة أن يفقد المرء حياته عندما يكون بامكانه إنقاذ حياته دون خزي"، بعد هذا التاريخ بثلاثين عاماً تصدر الكنيسة عام 1663 قراراً بإدانة أعمال ديكارت، لأنها تتعارض مع ما جاء في النصوص المقدسة وتثير الشك في نفوس المؤمنين، وفي العام 1679 يصدر أمراً بإدانة كتاب"رسالة في اللاهوت والسياسة لسبينوزا، ويمنع تداوله، في العام 1734 تقرر السلطات في انكلترا منع تداول مقال حول الفكر الإنساني لجون لوك، وبعدها تتم إدانة مونتسكيو لنشره كتاب"روح القوانين"وفي التاسع من حزيران عام 1751 يسجن الفرنسي دينيس ديدرو بعد نشر كتابه الشهير"رسالة الى العميان"، الذي دافع فيه عن فلسفته الماديّة، مجاهراً بإلحاده، حيث أراد أن يثبت من خلاله أن أفكارنا عن الصواب والخطأ ليست مستمدة من الله، بل من خبرتنا الحسية، بل وحتى فكرتنا عن الله يجب تعليمها، وهي أيضاً مثل فكرتنا عن الأخلاق، نسبية متنوعة، في العام 1762 تتم مصادرة كتاب أميل لجان جاك روسو، حيث تَقدم أحد اعضاء مجلس الشيوخ الفرنسي بشكوى يتهم روسو فيها بالإلحاد وإفساد عقول الشباب، فأصدر المجلس عام 1762 قراراً بحرق الكتاب والقبض على مؤلفه الذي كان في ضيافة إحدى الأميرات، التي سارعت الى إيقاظ ضيفها في منتصف الليل، تتوسل إليه أن يرحل قبل أن تُدهم الشرطة القصر، فخرج متخفياً منتصف الليل، ليبدأ رحلة المنفى الى سويسرا.
وفي العام 1782 يكتب الماركيز دي ساد الصيغة الأولى لروايته الأكثر إثارة""120 يوماً في سادوم أو مدرسة الفجور"، وتروي قصة أربعة مرضى عصابيين يسجنون 42 ضحية في قلعة ويجرون عليهم شتى طرق التعذيب الجنسية، وقد خبأها في جدار زنزانة بسجن الباستيل، الشخصيات الرئيسية الأربعة في الكتاب هي دوق، وأسقف، وقاض والممول، وهم يمثلون الجماعات التي شكلت معا النظام الأخلاقي والسياسي في فرنسا وهي بالتالي الجماعات المسؤولة عن حفظ ساد في السجن. وقد ارتقى هؤلاء في المكانة الاجتماعية والثراء أثناء عهد لويس الرابع عشر، ولكنهم تراخوا بسبب انغماسهم في الإثارة الجنسية، وتحقيقاً لهذه الغاية، أغلقوا على أنفسهم لمدة أربعة أشهر في قلعة منيعة في سان مارتن دي بيلفيل، فرنسا، مع ست وأربعين ضحية، معظمهم من الذكور الشباب والإناث المراهقات، ويدخلون معهم أربعة مديرات لبيوت دعارة ليروين قصص ومغامرات حياتهن.
ولد المركيز دي ساد في الثاني من حزيران عام 1740 من أسرة غنية، يعمل أفرادها في الجيش والبعض الآخر منهم رجال دين، أرسلته عائلته وهو في الرابعة إلى جنوب فرنسا، لكي يشرف على تعليمه عمّه رجل الدين لكنه يكتشف ان العم كان ماجناً، ولم ينس دي ساد ما قاله له يوماً عمه هذا :"هل تصدق إنني أدعو الى ملكوت الرب كل صباح، لكني أسهر في الليل مع عشيقتي، وهل تعلم إنني أعشق هذه المرأة وابنتها ومع ذلك فأنا قس" يعود إلى باريس سنة 1750 لإكمال دراسته الجامعية، ليصبح عام 1755 ملازما في فوج مشاة الملك. وما بين 1757 - 1763، يشترك في حملات حرب السنوات السبع، وينال ترقيات عديدة. يتزوج عام 1763. ولكنه بعد بضعة أشهر على الزواج، يحبس بسبب تحرشه الجنسي بفتاة قاصرة، ثم يُبعث إلى الإقامة الجبرية في نورماندي. بعدها يقوم بجلد شابة اسمها روس كيلر فيُغرم بمائة جنيه وفرض عليه الإقامة في قلعته في لاكوست التي سيتركها في عام 1796 إلى هولندا، في عام 1772 يتداول الناس فضيحته الكبيرة في مارسيليا، حيث قام بجلد أربعة نساء بالسياط فقدمن شكوى ضده ليهرب إلى إيطاليا. وفي الثالث من أيلول يصدر حكم الموت غيابيا عليه، في عام 1775، يكتب"رحلة داخل إيطاليا أو طروحات قديمة تاريخية وسياسية وفلسفية في ما يتصل بمدينة فلورنس، روما ونابولي". يعود سنة 1777، لرؤية أمه المحتضرة، فيعتقل ويسجن في فنسان، يهرب من السجن لكن هروبه لم يدم أكثر من 39 يوماً، إذ يلقى القبض عليه وهذه المرة يبقى في السجن لمدة 12 سنة. ومن داخل هذا السجن تبدأ مغامراته الكتابية. حيث ينجز العديد من الاعمال الادبية التي خلدت اسمه بين كبار ادباء فرنسا وفلاسفتها، من بينها"محاورة بين كاهن ومحتضر"1782 وهو نص أقرب ما يكون من المسرح، وأراد فيه أن يترك نصاً فلسفياً لمجمل تفكيره في الدين.
في الرابع عشر من تموز سنة 1789 يتم احتلال سجن الباستيل فيطلق سراحه في الثاني من آذار 1790. وفي عام 1791، ينشر"خطاب مواطن باريسي إلى ملك الفرنسيين"، في الثامن من كانون الأول عام 1793 يعتقل بتهمة الانتماء إلى الثوار. يُحكم عليه بالموت، لكن من حسن حظه يُطلق سراحه بامر من الثوار انفسهم. وفي منتصف 1795، تصدر روايته"الفلسفة في المخدع"ويضمّن دي ساد، في هذه الرواية، فصلا يحرض فيه الفرنسيين على التصدي الحازم للدين وقساوسته المجرمين، وفي العام 1799 تصدر روايته"جوستين يتبعها بـ"قصة جولييت، أختها"وهما روايتان تكملان الواحدة الأخرى، كان رجال الكتيسة هم أبغض البشر بالنسبة الى الماركيز دي ساد، وبسبب موقفه منهم تعرض للملاحقة والمحاكمة، وقد كتب يخاطب البابا بابيوس الخامس قائلاً له :"ياسيدي البابا هل تستطيع أن تدلني على العبارة الحكيمة التي نعيش في ظلها الآن، إن المسيحية دعوة الى الزهد والتقشف، بل إنها تحقد على الأغنياء، وهي تقول إن السماء لايدخلها غني واحد، وكان المسيح فقيراً، واتباعه فقراء، أما أنت والقساوسة فتعيشون في رخاء ونعيم، وأريد منك أن تدلني على العبارة في الأنجيل التي تنص على هذا الرخاء.. أنت أمام الناس ظل الله على الأرض، ولكنك في بيتك هنا ظل الشيطان على الأرض"وعندما التقي دي ساد بجان جاك روسو نصحه الأخير قائلاً :"يجب أن تعكف على دراسة الفلسفة والأدب والفن ويجب أن تؤمن بالطبيعة، فهي مصدر الخير والفضيلة والجمال"، ولم يؤمن بما قاله روسو فقد كانت الطبيعة عنده تساوي الشر والرذيلة والقبح، والطبيعة مجرمة والطبيعة لاتخطئ في تطبيق قواعدها، إن الطبيعة تقتل الآلاف والملايين لا لشيء إلا لأنها تجد لذة كبرى في ميلادهم من جديد.
تصف سيمون دي بوفوار، الماركيز دي ساد بأنه أخلاقي بامتياز، يشجع الناس على الفضيلة والأخلاق بإثارتهم نحو بشاعة الشر، حتى يقوموا بالتمرد عليه، لأنه يحاول إذلال القارئ باقتياده إلى أقاصي الفساد.