TOP

جريدة المدى > عام > المنقذ في الشرق

المنقذ في الشرق

نشر في: 4 يونيو, 2018: 06:36 م

 ناجح المعموري

واجه الراوي محطته الأخيرة هانئاً وسعيداً بعدما استطاع الافلات العجيب من الموت في البحر مع الكثير من الرجال والنساء الباحثين عن المنفى ، هو الآخر حلم يراود الرجال والنساء بدون استثناء ، أم هو محطة للأمان المؤقت ، مع معرفة الجميع بالخطورة المتكررة في الزوارق . هذه قصة ( ثيرافادر ) للقاص أسعد الهلالي عن نمط من العلاقة مع الآخر . وهي مغايرة عما كان مألوفاً في كثير من السرديات العربية التي ابتدأت بعصفور من الشرق والحي اللاتيني ومحاولة للخروج وكثير من الروايات العربية التي اعتنت بالحلم وانشغلت بالحوار مع الآخر مثلما في
تبرز في مثل هذه السرديات مفارقات الهوية والعلاقة مع الوطن والسعي نحو المكان الحلمي . وهذا ما اتضح جلياً في قصة أسعد اللامي ، لكنها في جوهرها مختلفة تماماً عن التجارب السردية السابقة وبهذا كشف الهلالي عن ذكاء قاده للمغايرة والاختلاف عن كثير من الذين اهتموا بثنائية الشرق والغرب الآخر منتج أساطيره الخاصة عن الشرق وتصوراته ، التي هي أوهامه وتمثيلاته لجغرافية الشرق الهائلة التي استكانت للصور التي صاغها الآخر للشرق لما هو معروف له ، ومتواتر عن الشرق بصحاريه الواسعة وأساطيره ودياناته.
حازت موضوعة العلاقة الثنائية على ظاهرة التكرار الذي جعل منها حتماً على جسد الشرق ولا يمكن الآخر التفكير بشيء غير الذي صدقه هو ولم يره . أي بمعنى تم صوغ سرديات نمطية عن الشرق وظلت راسخة في ذهنية الآخر وصاغت عبر تاريخ طويل نوعاً من الاشكالية الجوهرية التي تمثلت كمنظومة من العلاقات الثنائية والمواقف السياسية عن الشرق . وليس سهلاً زحزحة الثابت من هذه التمثيلات وإيجاد فجوة ، يتسلل منها الأنا / الشرق ويعيد صياغة تدريجية لأبعاد صورته .
لا نستطيع تجاهل حلم الراوي العراقي بالهروب للمنفى لأنها ظاهرة استولدتها الحرب مع داعش ودولتها الاسلامية وهجرة الأعداد الغفيرة الى الداخل والخارج ، والساعي للمنفى كاشف تقشر العلاقة مع هويته وتزعزع الذات وسط ظروف غير مناسبة. ولعل العلاقة مع تبدّيات السلطة ، أحد الأسباب التي جعلت الراوي في هذه القصة من أن يفكر جدياً بالمغادرة ، لأنه تعرض لعنف شديد من قبل شخصين يعملان بالمؤسسات الأمنية لأنه كان يتفسح مع عشيقته [ قحبة ، ما عندك أهل ، إحنا بيا حال وانتو ... ] وجد نفسه وجهاً لوجه مع تحول ، لم يكن مفاجئاً وجديداً ، بل هو بذرة كامنة ، لكنه شعر بتلك اللحظة بتضاؤل الاحساس بالذات وعليه الهروب وليس المغادرة . هروب يقوده للموت المحتمل مثلما حصل لغيره . ومثل هذا الموقف وضع الهوية وسؤالها أمام امتحان غير متوقف ، بل هو مستمر . ويزدهر بالأزمات التي عرفتها بلدان عربية كثيرة . ومثل هذا السؤال الجوهري والمهيمن متحرك وله سيرورة دائمة ، بسبب العلاقة المباشرة وغير المباشرة مع الآخر . والراوي في قصة ( ثيرافادا ) مدرك ، ويتمتع بوعي وخبرة ثقافية ، كشفت التفاصيل اللاحقة للقصة عندما وصل للنرويج ، ويتأتى وعيه من معرفته بضرورة التعايش مع المحيط الذي هو فيه، ولابد عليه من الاندماج والتمكن من اللغة وسيلة للتفاهم مع الآخر وتقديم ما يستطيع عليه من ثقافته وارثه ، لان الاخر غير منغلق ، بل منفتح على الوافد وغير متعصب بل يؤمن بالآخر بأنه الوافد ، الباحث عن حلم الخلاص يريد إدامة الحوار الثقافي وتجاور الهويات ، وخصوصاً هوية الراوي القابلة بالتشوف على سطوح مرايا الآخر . والراوي مرن ، متعايش ، لم ترد في القصة إشارة بسيطة على التباهي بهويته ، بل يريد الاندماج سريعاً بالحياة الجديدة ، لكنه لم يفكر بتجاهل خصوصيته . لذلك وجد في النرويج مجالاً لخلاص حقيقي ، يضعه أمام امتحان حوار الهويات ، وليس صراعها .
هذا ما شعر به اللحظة الأولى التي وصل فيها مضت ربع ساعة وما زالت خارجاً من ذاتي التي تشكلت أخيراً على انقاض ذات رخوة مرهفة مهانة ، أواصل السير في شارع ( سانت ليونارد ) الموازي لنهر "ميوز " سأقف الآن وأتكئ على السور المعدني الفاصل بين الشارع والنهر ، وأنظر الى المويجات المتكسرة وهي تواصل سيرها بكسل ، لم افهم بعد كل شيء حولي يوحي بالكسل ، انهم يريدونني أن أكون كسولاً ، كيف بنوا مدنهم العملاقة وصنعوا أوروبا التي شعرنا نحوها بالانبهار دوماً ؟
مراقبته اليومية للشاب الوفد يومياً والبقاء منتظراً في تمام ( الحادية عشرة وعشرين دقيقة أراه واقفا ينتظر قدومي ) ... يبتسم .... يقترب مني بحياء ، ينظر لي طويلاً ، يمد يده ببطء ، يمررها على شعري الأسود الكثيف ببطء أكثر ، يغمض عينيه في انتشاء ، يهمس الى دواخله ببعض الكلمات ، يفتح عينيه ينظر الي بانجذاب غريب ، يغادرني دون أن ينطق بكلمة ... فالذي يريده مني هذا الأشقر الطويل ... ملامحه رقيقة كملامح فتاة واضحة الدقة والضبط في تمثيلات الوافد لتفاصيل شكل الشاب الذي اعتقده مثلياً . عناية القاص بالغة جداً في رصيد التفاصيل وهو في البحر وفي وسط الشارع ومعاينته للحركة . إنه يكتب سيناريو سينمائي ، ويدنو في احيان كثيرة من فعاليات كاميرا دقيقة برصدها المتمركز على هذا الشاب / الاخر المهووس بالحضور ومداعبة شعر المنفي / المندهش والمستغرب من وحدته منذ مجيئه . يبدو كلاعبي كرة السلة ، لكنه اكثر مخافه ، يغمض عينيه ، ملامحه رقيقة كملامح فتاة ، أبيض الوجه ، أخضر العينين ، شعره الأشقر أكثر طولاً من شعر الكثير من الفتيات اللواتي يشاركنني الرصيف الطويل يضع خصلتين شقراوتين تبدوان غريبتين عن شعره المسدل كمياه نهر " ميوز " .... إنه يكرر ما يفعله كل يوم وكأنه يؤدي صلاة مقدسة ، ولم أعرف بعدما الذي يريده ، لن أفهم على اية حال ، فانا لم أتقن الفرنسية بعد.
اعتنى القاص أسعد اللامي كثيراً بتقديم تمثيل جديد عن الشرق ، مختلف عما كان مألوفاً ومكرساً ، أراد رسم صورة للشرق بوصفه بناء خطابياً مغايراً ، عبر العلاقة غير المباشرة مع الشاب البلجيكي ( ما الذي يريده مني هذا الأشقر الطويل ؟
همس بخفوت : ثيرا فادا !!!!
ما يقوله الشاب المنبهر جداً بالشرقي هو قبول كلي به .
وبالثيرافادا التي تمثل لديه روح الشرق الحارسة التي اطلقها نيتشه وتكرست حاضرة وفاعلة . روح حارسة لعظمة شيوخ المدرسة البوذية التي ذهبت كلها الى الأب يسوع . ما يقوله الشاب اعترافاً وتمجيداً بيوذا الذي يشبه العراقي الوافد . نجح القاص بانتاج تمثيل جديد حضر لدى الآخر وسيتعمق حتماً .

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

إردوغان عن دعوة أوجلان إلى إلقاء السلاح: "فرصة تاريخية"

ترامب: زيلينسكي غير مستعد للسلام

حكمان عراقيان لقيادة نهائي كأس آسيا للشباب في الصين

إيران تعلن الأحد المقبل أول أيام شهر رمضان

وزير الكهرباء الأسبق: استيراد الغاز من إيران أفضل الخيارات

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

الكشف عن الأسباب والمصائر الغريبة للكاتبات

موسيقى الاحد: عميدة الموسيقيين

النقد الأدبي من النص إلى الشاشة

النوبة الفنيّة أو متلازمة ستاندال

صورة الحياة وتحديات الكتابة من منظور راينر ماريا ريلكه

مقالات ذات صلة

علاقة الوعي بالمعنى والغاية في حياتنا
عام

علاقة الوعي بالمعنى والغاية في حياتنا

ماكس تِغمارك* ترجمة وتقديم: لطفية الدليمي بين كلّ الكلمات التي أعرفُها ليس منْ كلمة واحدة لها القدرة على جعل الزبد يرغو على أفواه زملائي المستثارين بمشاعر متضاربة مثل الكلمة التي أنا على وشك التفوّه...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram