TOP

جريدة المدى > عام > الفيزياء والفلسفة .. تطوّر الأفكار الفلسفية منذ ديكارت حتى نظرية الكمّ

الفيزياء والفلسفة .. تطوّر الأفكار الفلسفية منذ ديكارت حتى نظرية الكمّ

نشر في: 5 يونيو, 2018: 06:48 م

القسم الثاني

ترجمة وتقديم : لطفية الدليمي

تمثّل الفيزياء - بسبب طبيعة مباحثها المعرفية - التوأم الطبيعي للفلسفة ، وقد تطوّرت هذه العلاقة التوأمية بين الفيزياء والفلسفة منذ بواكير الفلسفة الإغريقية التي يمكن عدّ أقطابها الأعلام أوائل فيزيائيي عالمنا ، ولابدّ هنا من الإشارة المحدّدة إلى الفيلسوف الإغريقي ( ديموقريطس ) الذي كان أوّل من أشار إلى المبدأ الذري Atomism وتخلّدت ذكراه في العمل الفلسفي الفخم الذي كتبه ( لوكريشيوس ) بعنوان ( في طبيعة الأشياء De Rerum Natura ) .
ترسّخ الإرتباط الوثيق بين الفيزياء والفلسفة في العصور اللاحقة للعصر الإغريقي حتى بزوغ عصر الميكانيك النيوتني الذي جاء بأدوات رياضياتية مستحدثة ( هي رياضيات التفاضل والتكامل ) في التعامل مع الظواهر الطبيعية ، ثمّ ترسّخ دور الرياضيات في الفيزياء بعد الفتوحات العلمية العظيمة التي تحققت ؛ لكن هذا الأمر لم يلغِ الشغف الفلسفي بقدر ماأعاد تشكيله ، وظهر مفهوم ( الفيزيائي - الفيلسوف ) كواقع حال تفرضه طبيعة الإشتغالات الفيزيائية التي تتعامل مع مفاهيم ذات مدلولات فلسفية مثل : الزمان ، المكان ، الفضاء ، طبيعة القياس ، التزامن ،،،، وليس غريباً أن تسمّى أقسام الفيزياء في كثير من الجامعات ( وبخاصة الأسكتلندية منها ) بأقسام ( الفلسفة الطبيعية Natural Philosophy ) في إشارة واضحة إلى تأصيل الفيزياء وعلاقتها التوأمية بالفلسفة ، ويلاحظ في هذا الشأن أنّ الفلسفة المعاصرة باتت أكثر إلتصاقاً بالإشتغالات الفلسفية التي شغلت الكائن البشري منذ بواكير وجوده الأولى ؛ فقد أثارت المعضلات المفاهيمية التي جاءت مع نظرية الكمّ تساؤلات فلسفية معمّقة لطالما كانت ميدان نظر العديد من الفيزيائيين - الفلاسفة مثل : ألبرت آينشتاين ، إرفين شرودنغر ، ماكس بورن ، ديفيد بوم ، فيرنر هايزنبرغ ،،، الخ .
أقدّم في هذا القسم ( وأقسام لاحقة ) ترجمة للفصل المعنون ( تطوّر الأفكار الفلسفية منذ ديكارت حتى نظرية الكمّ ) من كتاب ( الفيزياء والفلسفة : الثورة في العلم الحديث Physics and Philosophy : The Revolution in Modern Science ) للفيزيائي - الفيلسوف فيرنر هايزنبرغ Werner Heisenberg الذي كان أحد الفيزيائيين الطلائعيين في ترسيخ مفاهيم نظرية الكمّ ، وقد نُشِر الكتاب في طبعته الأولى عام 1958 ولم يزل يُعدّ كتاباً مرجعياً حتى يومنا هذا .
المترجمة

من جانب آخر ، كان أمراً يسيراً للغاية أن نتنبّأ منذ البدء بالصعوبات التي ستواجه عملية التمييز تلك ؛ إذ خلال التفرقة بين (الكينونة المفكّرة) و (الكينونة الممتدّة) على سبيل المثال سنجد ديكارت وقد دُفِع دفعاً لأن يصنّف الحيوانات في خانة ( الكينونة الممتدّة) بالكامل ، وعلى هذا تكون الحيوانات والنباتات لاتختلف بشيء عن الماكِنات machines من حيث أنّ سلوكها منقادٌ تماماً بعللٍ مادية ، ويبدو أنّ من الشاقّ علينا - نحن البشر - تصوّر وجود نوعٍ من الروح في الحيوانات ، وبالإضافة لذلك فإنّ المفهوم القديم للروح - كما يظهر في فلسفة توماس الاكويني مثلاً - هو أمرٌ أكثر تساوقاً مع السمات الطبيعية واقلّ قسريّة من مفهوم ( الكينونة المفكّرة ) الديكارتي حتى في تلك الحالات التي نقتنع فيها بأنّ قوانين الفيزياء والكيمياء تشمل بدقتّها الكائنات الحيّة . كان من بعض النتائج المستخلصة المتأخرة لهذه الفكرة الديكارتية أنّنا إذا نظرنا - ببساطة - إلى الحيوانات باعتبارها ماكناتٍ فسيصعب حينها علينا ألّا نقول الشيء ذاته عن البشر ، ومن ناحية أخرى لمّا كانت ( الكينونة المفكّرة ) و ( الكينونة الممتدّة ) قد أعتُبِرتا أمرين مختلفين تمام الإختلاف في الجوهر فسيكون من الطبيعي ألّا نتوقّع أن يكون لإحدى الكينونتين تأثير على الأخرى ؛ وبموجب هذه الرؤية ولكي نقيم توازياً كاملاً بين خبرة العقل وخبرة الجسد فلامناص حينئذ من أن يكون النشاط العقليّ هو الآخر منقاداً بالكامل لسطوة قوانين تُناظِر قوانين الفيزياء والكيمياء ، وهنا تنشأ موضوعة إمكانية ( الإرادة الحرّة ) . إنّ من الواضح تماماً كون كلّ هذا الوصف ليس سوى وصف إصطناعيّ بشكلٍ من الأشكال ، وإلى جانب ذلك فهو يكشف عن المثالب الخطيرة في عملية التمييز الديكارتي .
من ناحية أخرى سنجد أنّ التمييز بين عناصر الثالوث الديكارتي في حقل العلوم الطبيعية كان ناجحاً كلّ النجاح ولبضعة قرون لاحقة ؛ فقد شرع الميكانيك النيوتنيّ ( نسبة إلى نيوتن ، المترجمة ) وكلّ الفروع الأخرى من الفيزياء الكلاسيكية المشابهة له من إفتراض أوّلي يصرّح بإمكانية وصف العالم من دون الحديث عن الإله أو عن أنفسنا ، وبدت هذه الإمكانية حينها وكأنها تكاد تبلغ مبلغ الشرط اللازم والضروري لكلّ العلوم الطبيعية بعامّة .
لكنّ الوضع تغيّر بعض الشيء بسبب نظرية الكمّ Quantum Theory ، وهنا فقد يكون أمراً لازماً وقد بلغنا هذا الموضع أن نقارن بين النسق الفلسفي لديكارت مع الوضع الحالي في الفيزياء الحديثة . قلتُ في مواضع كثيرة من قبلُ أنّنا نستطيع المُضيّ في تفسير كوبنهاغن لنظرية الكمّ * من غير التطرّق إلى ذكر أنفسنا كأفراد مستقلّين ؛ لكننّا لانستطيع تجاهل حقيقة أنّ الإنسان هو مَن خلق هيكل العلوم الطبيعية ، والعلوم الطبيعية ذاتها ليست محض وصفٍ وتفسير للطبيعة فحسب بل هي جزءٌ من التفاعل بين الطبيعة وأنفسنا ، وهي تصف الطبيعة بعد أن نخضعها لطريقتنا المنهجية في المحاكمة والإستيضاح ، وتلك إمكانية لم يكن ديكارت ليطيل التفكّر فيها لكنّها تجعل عملية الفصل الحاسم بين العالم والأنا مستحيلة .
لو إقتفينا آثار الصعوبة البالغة التي جابهت حتّى أعاظم علماء الفيزياء ( من أمثال آينشتاين ) في تفهّم وقبول تفسير كوبنهاغن لنظرية الكمّ فسنجد أنّ جذور تلك الصعوبة المعسِرة تعود لعملية التمييز الديكارتي بين أقانيم مثلّثه العتيد ؛ إذ حصل أن تغلغلت آثار هذا التمييز عميقاً في العقل البشري خلال القرون الثلاثة التي إنقضت عقب ديكارت ، وسيتطلّب الحال زمناً طويلاً حتى تُتاح لنا إمكانية إستبدال التمييز الديكارتي بموقف آخر يختلف إختلافاً جذرياً في رؤيته لمعضلة الواقع .
أمّا مايخصّ الوضع الذي قادت إليه عملية التمييز الديكارتي بالنسبة لِـ (الكينونة الممتدّة) فقد كان شيئاً يمكن أن نخلع عليه مسمّى الواقعية الميتافيزيقية ؛ فالعالم - ونعني بذلك الكينونات الممتدّة - " موجود " ، ويتوجّب أن نميّز بين الواقعية الميتافيزيقية والواقعية العملية . من الممكن أن نصف الأشكال المتمايزة من الواقعية على الشاكلة التالية : نحن " نُضفي قدراً من الموضوعية objectivate " على كلّ عبارة إذا إدّعينا أنّ محتوى تلك العبارة لايعتمد على الظروف اللازمة لإثباته . تفترض الواقعية العملية وجود عبارات يمكن إضفاء قدر من الموضوعية عليها ؛ بل أنّ الجزء الأعظم من خبرتنا في الحياة اليومية يتألّف في واقع الأمر من مثل هذه العبارات ، وتدّعي الواقعية الدوغمائية من جانب آخر ألّا لعبارات تتعلّق بالعالم المادي لايمكن إضفاء الموضوعية عليها . كانت الواقعية العملية دوماً (وستظلّ دوماً كذلك) جزءً جوهرياً من العلوم الطبيعية ؛ في حين أنّ الواقعية الدوغمائية - على الشاكلة التي نراها بها اليوم - ليست شرطاً ضرورياً مسبقاً للعلوم الطبيعية ؛ وبرغم ذلك فقد ساهمت مساهمة مهمّة في تطوّر العلوم ، بل ويمكن القول أنّ الوضع المتسيّد في الفيزياء الكلاسيكية هو وضع واقعيّة دوغمائية ، ووحدُها نظرية الكمّ هي التي عرفنا من خلالها أنّ العلم الدقيق يمكن بلوغه من غير أية معونة من واقعية دوغمائية . تأسّس نقد آينشتاين لنظرية الكمّ على الواقعية الدوغمائية ، وهذا موقف طبيعي للغاية لأنّ كلّ عالِمٍ يُجري التجارب إنّما يشعر بأنّه يبحث عن شيء له حقيقة موضوعية ، وفي الوقت ذاته لايرغب أن تعتمد عباراته على الظروف اللازمة لإثباتها ، وثمّة حقيقة لاتنفك تخبرنا أنّنا نستطيع تفسير الطبيعة - وبخاصة في الفيزياء - بقوانين رياضياتية بسيطة ، وهنا يستشعر المرء بأنّه يقابل جانباً حقيقياً من جوانب الواقع لاشيئاً من إبتكاراتنا البشرية بكلّ مافي عبارة ( إبتكاراتنا البشرية ) من معانٍ ذات دلالة طاغية . هذه الحقيقة هي التي كانت ماثلة في عقل آينشتاين عندما جعل الواقعية الدوغمائية أساساً للعلوم الطبيعية ؛ غير أنّ نظرية الكمّ ذاتها تمثل مفارقة صارخة من حيث أنّها مثالٌ لإمكانية تفسير الطبيعة بقوانين رياضياتية غاية في البساطة من دون الحاجة إلى تمثّل هذا الأساس ( من الواقعية الدوغمائية ، المترجمة ) ، وقد لاتبدو قوانين ميكانيك الكمّ بسيطة عند مقارنتها بميكانيك نيوتن ؛ غير أنّنا إذا مادقّقنا في التعقيد العظيم للظواهر المطلوب تفسيرها ( على سبيل المثال فحسب : الطيف الخطي للذرّات المعقّدة ) فسنجد أنّ الصياغة الرياضياتية لنظرية الكمّ بسيطة نسبياً . الحقّ أنّ العلم الطبيعيّ كلّه يمكن تشييد هياكله من دون معونة من أساسٍ يستمدّ قوّته من الواقعية الدوغمائية .

___________
* تفسير كوبنهاغن لنظريّة الكم Copenhagen Interpretation of Quantum Theory : هو أحد أهمّ التفسيرات شيوعاً في علم ميكانيك الكم ، ويفترض التفسير أن ميكانيك الكم لاتسفر عن وصف الظواهر الطبيعية بشكل موضوعي ولكن تتعامل فقط مع احتمالات الرصد والقياس ، ولعلّ أغرب فروض هذا التفسير هو أن عملية القياس ذاتها تؤثر على سلوك النظام الكمي بمعنى أن عملية القياس تسبّب ما يعرف بـ ( انهيار الدالة الموجية Wave Function) ، وقد وضعت المفاهيم الأساسية لهذا التفسير من قبل(نيلز بور) و (فيرنر هايزنبرغ) و (ماكس بورن) وغيرهم في السنوات 1924- 1928 . (المترجمة)

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

إردوغان عن دعوة أوجلان إلى إلقاء السلاح: "فرصة تاريخية"

ترامب: زيلينسكي غير مستعد للسلام

حكمان عراقيان لقيادة نهائي كأس آسيا للشباب في الصين

إيران تعلن الأحد المقبل أول أيام شهر رمضان

وزير الكهرباء الأسبق: استيراد الغاز من إيران أفضل الخيارات

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

الكشف عن الأسباب والمصائر الغريبة للكاتبات

موسيقى الاحد: عميدة الموسيقيين

النقد الأدبي من النص إلى الشاشة

النوبة الفنيّة أو متلازمة ستاندال

صورة الحياة وتحديات الكتابة من منظور راينر ماريا ريلكه

مقالات ذات صلة

علاقة الوعي بالمعنى والغاية في حياتنا
عام

علاقة الوعي بالمعنى والغاية في حياتنا

ماكس تِغمارك* ترجمة وتقديم: لطفية الدليمي بين كلّ الكلمات التي أعرفُها ليس منْ كلمة واحدة لها القدرة على جعل الزبد يرغو على أفواه زملائي المستثارين بمشاعر متضاربة مثل الكلمة التي أنا على وشك التفوّه...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram