ثائر صالح
كثيراً ما يبدأ بعض الناس التصفيق بعد انتهاء الحركة الأولى من سيمفونية أو كونشرتو وهم يستمعون إليها في صالة الموسيقى، فينظر اليهم الآخرون بغضب. لأن من أصول وتقاليد السماع الموسيقي ابداء الاعجاب بعد انتهاء العمل الموسيقي وليس في وسطه أو خلاله. لكن مَن وضع هذه القواعد ومتى؟ وبدرجة أهم، لماذا؟
لم يكن الأمر على هذا النحو دائماً، فأتيكيت السماع الموسيقي تغير على مر العصور، مثلما تغيرت الموسيقى ذاتها.
الموسيقى بشقين، دينية، تصاحب المراسيم والطقوس، وغرضها معروف، الشق الثاني، ما يسمى بالموسيقى الدنيوية، فغرضها الاستمتاع بمباهج الحياة، سواء في احتفالات جماعية (ذات جذور دينية أو غيرها، ترتبط بالدورة الاقتصادية والزراعة مثلاً). في حالة الموسيقى الدينية لم يتعود الناس، جمهور المصلين على ابداء الاعجاب عبر التصفيق أو غيره، واستمر هذا التقليد طويلاً حتى أيامنا الحالية، فكثيراً ما يحدث أن نذهب الى حفل موسيقي في كنيسة (لموسيقى دنيوية ربما)، ونخرج من الحفل دون أن يصفق أحد في ختام الحفل. بالطبع هناك حالات أخرى يتصرف فيها الجمهور مثلما يتصرف في قاعات الموسيقى.
من جانب آخر، كان تقديم الموسيقى عند النبلاء والأثرياء مثل تقديم أفخر الطعام للضيوف، وكل ثري يتباهى بجودة الطعام وبجودة الموسيقى التي يقدمها في قصره. ومثلما تتخلل وجبات الطعام الأحاديث والنكات وتجري الحياة الاجتماعية - أي مثل ما نجده اليوم في الفيسبوك - كانت الموسيقى تصاحب بالأحاديث وشرب القهوة وقرع كؤوس الشراب الفاخر. لم يكن أحد من الموسيقيين الكبار يتصرف على نحو آخر وسط هذا الجو البهيج. وكثيراً ما صفق النبلاء وسط حركة ما لابداء اعجابهم بلحن جميل أو ابتكار موسيقي جديد، وكان الموسيقيون يعيدون أداء المقاطع والحركات التي تثير اعجاب الحاضرين عدة مرات، وهذا ما حدث مع هندل ومتتابعة موسيقى الماء عندما قدمت الفرق الموسيقية نفس العمل ثلاثة مرات خلال نفس الليلة في 17 تموز 1717. ونعرف عن تلمان أنه ألف الكثير من الرباعيات التي أسماها موسيقى المائدة، لمصاحبة مآدب النبلاء وهو تقليد شائع بين موسيقيي عصر الباروك منذ القرن السابع عشر، وتحول هذا التقليد الى تأليف ما يسمى موسيقى ديفرتيمنتو في النصف الثاني من القرن الثامن عسر ، والموسيقى هنا خفيفة ممتعة لا تثقل معدة الجالسين الى موائد الطعام العامرة.
أما الأوبرا التي ظهرت في القرن السابع عشر فكانت احتفالاً كبيراً، مهرجاناً تجتمع فيه الطبقات الثرية من نبلاء وصناعيين أثرياء جدد، وتستمر طيلة المساء وحتى ساعات متأخرة، يجري خلال تقديم العمل الأوبرالي تناول العشاء وغير ذلك. وكان هندل يقدم كونشرتات الأورغن في الاستراحات التي تتخلل تقديم الأوبرات أو الأوراتوريات التي تمثل الفعالية الرئيسية للأمسية. وكثيرا ما كان الجمهور يقاطع المغني بالتصفيق إن أجاد أداء مقطع صعب من الآريا التي يقدمها، أو بالصفير والاستهجان إن قدم أداء ضعيفا. في بداية القرن التاسع عشر أخذ بعض المؤلفين يستأجر مجموعة من الناس مهمتهم التصفيق، بعض النظر عن مستوى الأعمال التي يقدمونها. جماعات الصفّاقة هذه أخذت تستثير المؤلفين الكبار الذين كانوا يهتمون بالتماسك الداخلي للعمل الفني الذي يقدمون، فأخذوا ينتقلون من حركة الى أخرى دون توقف حتى لا يعكر التصفيق التماسك الداخلي والتواصل النغمي الموسيقي للعمل، ومن أولى الأمثلة على هذا أعمال مندلسون (كونشرتو الكمان الرائعة أو السيمفونية السكتلندية) أو شومان في كونشرتات البيانو والتشيلو. بعد هذا بدأت عادة الانصات العميق وابداء الاعجاب في آخر العمل تبرز شيئاً فشيئاً، لكن العامل الحاسم الذي رسخها هو ظهور تقنية التسجيل والفونوغراف. وأحد أسباب حذف التصفيق هو ضيق الحيز، فالاسطوانات القديمة (سرعة 78 دورة في الدقيقة) لم تكن تتسع لتسجيل الأعمال السيمفونية الطويلة، أو حتى متوسطة الطول (بحدود ربع ساعة). ودخلت هذه العادة صالات الموسيقى شيئا فشيئا، حتى أصبح التصفيق وسط العمل ينم عن الجهل الموسيقي أو قلة الذوق على أقل تقدير. لكننا لانزال نشهد استمرار بعض التقاليد القديمة في الأوبرا والبالية، إذ يجري التصفيق بعد الآريات والمقاطع الجميلة والشهيرة في الكثير من دور الأوبرا.