TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > البرج العاجي: موسيقى حركات الإعراب

البرج العاجي: موسيقى حركات الإعراب

نشر في: 10 يونيو, 2018: 06:30 م

 فوزي كريم

كلما أرهفَ الفنُّ التشكيليّ العينَ، كلما استأنستْ العينُ للحرف العربي ولحركاتِ إعرابه. وكلما أرهفتْ الموسيقى الأذنَ، كلما طرِبتْ الأذنُ لصوتِ الحرفِ العربي ولحركاتِ إعرابه. وأنا أميلُ اليوم لكتابة قصيدتي، بصورة خاصة، على الحاسوب من كتابتها على الورقة، بفعلِ سحرِ الحرفِ وحركتِه الاعرابية، وهو يرتسمُ بشتى الأشكال التي أرغبها، على أثر لمسة الآلة الطابعة، وكأنه يندلق من زبدة الضوء، بالغَ الحضور، على الشاشة الفضية. يخرجُ إليّ أجردَ الشكل، حتى أُملي عليه بالحركة حيويةَ التشكيل البصري. ويخرجُ أجردَ الصوت، حتى أُملي عليه بالحركة حيوية النغم. استيناس العين يتوحّد مع طرب الأذن، لأن الحرف العربي مع حركة إعرابه يتطلّب إيصاتاً مسموعاً. ولذا عادة ما أكتب قصيدتي بصوت مسموع.
في الانكليزية تكمن موسيقى المفردة في حروف العلة الخمسة A,E,I,O,U، وفي العربية حروف علّة شبيهة (وتسمى فرعية)، ثم تأتي الحركاتُ إضافةً (حركات إعراب أصلية)، تُحمّل المفردة مزيداً من الإصاتة الموسيقية. إقرأ لأبي نؤاس، بأريحية أبي نؤاس، وغنائيته: "حَفَّ كأسَها الحَبَبُ/ فَهْيَ فِضّةٌ، ذَهّبُ"، ستجد رقصاً خفيّاً، وغناءً خفيّاً في كيانك، حتى لو كانت الموسيقى في ذهنك من المحرّمات. يُخيّل لي أحياناً أن رؤية الحركات المتلاحقة في هذا البيت الشعري (فتحة/ فتحة مشددة/ فتحة/ سكون..الخ)، والتي تكوّن بصورة غير مرئية "تفعيلة" الإيقاع، تشبه النوتات الموسيقية، التي تكوّن النغم.
في أمسياتي الشعرية الغربية القليلة، عادةً ما أقرأ الأصلَ العربي بعد قراءة النص المترجم: خذوا الدلالةَ من النص المترجم، أقول لهم، أما روح الدلالة فتُقبل عليكم من موسيقى الأصل. وكانوا يستعيدونني دائماً، بفعلِ الطربِ الموسيقيِّ، في قراءة النصِّ العربي. ثم أن حديثَهم معي، بعد انتهاء الأمسية، عادةً ما ينصرف إلى هذه الجاذبية الموسيقية في لغة الشعر العربي.
الحروفُ العربيةُ وحركاتُ إعرابها تنطوي على عنصريْ الموسيقى الأساسييْن: "الايقاع"، و"اللحن". الإيقاع يتولد من ميزان تلاحقِ الحركة والسكون (الوزن)، أما اللحن أو النغم فينبثق من حركات الاعراب، ومن اللغة الشعرية للشاعر، التي تعكس طبيعة تجربته الداخلية. نتبينها حين نقارن قصيدتين من الوزن ذاته، لشاعرين مختلفين. والعربية في هاتين بالغة الوضوح والتميز، على خلاف الانكليزية أو بعض اللغات الأوربية التي يتماهى فيها إيقاع الشعر مع إيقاع النثر. ولذلك تبدو الدعوةُ لمحاكاة (شكل) Free verse الانكليزي لدى بعض الكتاب (جبرا ابراهيم جبرا، عبد الواحد لؤلؤة، سركون بولص..) مُملاةً ثقافياً، ولا شأن لها بطبيعة اللغة الشعرية العربية. ولو كانت لغةُ الشعر الصينية ذات سيادة ثقافياً كالإنكليزية، فستجد من يدعو، باسم الحداثة، إلى ضرورة اعتماد شكلها الإيقاعي في الشعر، بالرغم من استحالة الاحساس بالإيقاع فيها، أو النغم.
حين كنت صبياً، وقد علِقَ بي ولعُ القراءة، كانت كتبُ التراث هي المفضّلة، لا لشيء إلا لأن حروفَها وحركاتِها تؤنس العين، وتُطرب الأذن. ولقد كنتُ يومها أخططُ وأرسم بالألوان على الورق والخشب، وإذا أطربني بيتُ الشعر أغنّيه. وهما عاملان سياديان. ولي خربشات في الكتابة تطورت فيما بعد إلى كتابة القصيدة. في الكتبِ المحققة كنتُ أحبُّ أن أقلّدَ كتابة المخطوطات المصورة، التي أستعيدُ لذاذتها اليوم في طرق الكتابة في المغرب العربي.
من بين مطبوعات كتب التراث، كنت أحرص على اقتناء بعض ما أصدرته المطبعة الكاثوليكية، و"الكتاب المقدّس" ضمناً، بفعل خواص الحرف والحركات المطبوعة. من بينها كتاب "مجاني الأدب" للأب شيخو، الذي احتفظُ بجزئه الأول، المقتصر على منتخبات الشعر الجاهلي، حتى اليوم. بين حين وآخر، أُخرجُه وأتاملُ فنَّ الطباعة في توزيع المتن والهامش، والعناوين الجانبية للفقرات، بالحرف الواضح على شدة صغره. أتساءل إذا ما زلتُ أقرأ فيه، طمعاً بحلاوةِ النظرِ والسمعِ في الحروف وحركاتها المتلاحقة، كما كنتُ أفعل أيام الصبا، أم طمعاً باستيعاب هذه الكثافة التي تتمتع بها اللغة والصورة الشعريتان أيضاً، في هذه النصوص التي سبقت الاسلام؟ لا شك أنهما مهمتان، تُكملُ إحداهُما الأخرى الآن. خاصة وأن الميلَ إلى كتاب التراث، أقرؤه بإصاتة، صار أشبه باستراحة السنوات المتأخرة من العمر.

 

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

هل ستعيد التشكيلة الوزارية الجديدة بناء التعليم العالي في العراق؟

العمود الثامن: يزن سميث وأعوانه

العمود الثامن: معركة كرسي رئيس الوزراء!!

العمود الثامن: عبد الوهاب الساعدي.. حكاية عراقية

السيد محمد رضا السيستاني؛ الأكبر حظاً بزعامة مرجعية النجف

العمود الثامن: موجات الجزائري المرتدة

 علي حسين اعترف بأنني كنت مترداً بتقديم الكاتب والروائي زهير الجزائري في الندوة التي خصصها له معرض العراق الدولي للكتاب ، وجدت صعوبة في تقديم كاتب تشعبت اهتماماته وهمومه ، تَّنقل من الصحافة...
علي حسين

قناديل: في انتظار كلمة أو إثنتيّن.. لا أكثر

 لطفية الدليمي ليلة الجمعة وليلة السبت على الأحد من الأسبوع الماضي عانيتُ واحدة من أسوأ ليالي حياتي. عانيت من سعالٍ جافٍ يأبى ان يتوقف لاصابتي بفايروس متحور . كنتُ مكتئبة وأشعرُ أنّ روحي...
لطفية الدليمي

قناطر: بعين العقل لا بأصبع الزناد

طالب عبد العزيز منذ عقدين ونصف والعراق لا يمتلك مقومات الدولة بمعناها الحقيقي، هو رموز دينية؛ بعضها مسلح، وتشكيلات حزبية بلا ايدولوجيات، ومقاولات سياسية، وحُزم قبلية، وجماعات عسكرية تنتصر للظالم، وشركات استحواذ تتسلط ......
طالب عبد العزيز

سوريا المتعددة: تجارب الأقليات من روج آفا إلى الجولاني

سعد سلوم في المقال السابق، رسمت صورة «مثلث المشرق» مسلطا الضوء على هشاشة الدولة السورية وضرورة إدارة التنوع، ويبدو أن ملف الأقليات في سوريا يظل الأكثر حساسية وتعقيدا. فبينما يمثل لبنان نموذجا مؤسسيا للطائفية...
سعد سلّوم
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram